السلفية بين الحقيقة والبدعة

 

 

كان الدكتور حمدى زقزوق مفكرًا وأستاذًا للفلسفة الإسلامية وأصول الدين قبل أن يكون وزيرا، وكان موقفه واضحا فى مؤلفاته ومقالاته فى الأهرام وفى مجلة صوت الأزهر ومجلة المجلس الأعلى للشئون الإسلامية .. كان يتصدى بقوة لتيارات الفكر المنحرف التى تدعى أنها تدعو إلى الإسلام وهى فى الحقيقة تشوه الإسلام وتسيء إليه ويكشف زيف التيارات التى تستغل الدين للسيطرة على عقول العامة وتبرر لأتباعها الكذب والنفاق على أنه «التقية».

وكان يناقش بالعقل والمنطق وبالقرآن والسنة الصحيحة ما فى دعوة الإخوان والسلفية من انحراف. ويرى أنهما خطر على مستقبل الدين وعلى مستقبل البلاد الإسلامية وخطر على العقل الإسلامي. وكان يرى أن المجتمع الإسلامى يعانى خللا فكريا يتمثل فى الخلط بين المفاهيم والمصطلحات الدينية وهذا ما تسبب فى البلبلة فى الفكر والفهم والقصور فى الرؤية الصحيحة للدين والمجتمع والإنسان، وقد أدى انتشار الفضائيات المتشددة إلى عودة أفكار وممارسات غريبة.. هذه الفضائيات تلقن العامة تكفير المسلمين وتدعوهم إلى الكراهية والعداء لكل من يختلف عنهم فى الفكر والسلوك. وقد تغلغل فكر المتحدثين فى هذه الفضائيات إلى أن انشغل الناس بصغائر الأمور وبالفرعيات الشكلية والتعصب الأعمى الذى وصل إلى ادعاء احتكار الحق دون الآخرين. وقد رأينا كيف كان الإخوان والسلفيون يعلنون أنهم حزب الله وغيرهم حزب الشيطان!

كان الدكتور زقزوق يقول إن الحق واحد ولكن الأفهام متعددة، والإسلام يدعو الى الإجتهاد تأكيدا لنسبية الفكر الإنساني. وأكبر مثال على سوء الفهم مصطلح» السلفية «والأصل فى السلفية اتباع السلف الصالح من الصحابة والتابعين وتابعى التابعين فى إخلاص العبادة. وقد تركوا لنا تراثا فيه الثابت وفيه المتغير بتغير الزمان والمكان والظروف، وكل مفهوم السلفية تحول على أيدى الدعاة الجدد غير المؤهلين علميا إلى التمسك بعادات تجاوزها الزمن ولابد من إعمال العقل فيها وإخضاعها للاجتهاد، فليس مطلوبا منا أن نظل نكرر عادات السلف فى اللبس والأكل والمظهر ونتجاهل عامل الزمن وما حدث من تغير فى أسلوب حياة المسلمين بعد مرور عشرات القرون، ولا يعقل أن تتوقف حركة الحياة عند القرن الأول أو الثانى ونتجاهل ما استجد على حياة الناس فى القرن الرابع عشر، ليس من المعقول أن نتجاهل طبيعة الحياة المتجددة وما أنتجه العقل والعلم وما تفرضه الحضارة الحديثة بما لا يتعارض مع ثوابت الدين. ولذلك كان الإمام محمد عبده يرى أن الفهم الصحيح للدين الإسلامى يعتمد على العلم والعقل وكان يرفض كل قول فى الدين يتعارض مع العقل، ويرفض السلفية التى تكتفى بتقليد القدماء وتقف عند ظاهر النصوص وترفض الرأى والقياس والتأويل، وقد انتشر تيار الجمود والتقليد على حساب التيار السلفى العاقل مما جعل الشيخ محمد الغزالى يصف السلفية المنتشرة فى مجتمعنا بأنها «سلفية مزعومة» عرفت من الإسلام قشوره ونسيت جذوره وصارت متحجرة وجعلت التدين مجرد التمسك بالمظاهر دون الجوهـر متجاهلين الحديث الشريف: «إن الله لا ينظر إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم».

هذه السلفية الرجعية المنتشرة بين العامة هى التى قال عنها الشيخ على جمعه مفتى الجمهورية الأسبق وعضو هيئة كبار العلماء بالأزهر إنها سلفية مزعومة، وإنها بدعة وليست مذهبا لأنها تتمسك بأمور لا يتدخل الدين فيها، فليس فى النصوص المقدسة تحديد لملابس المسلمين ولا لطريقة أكلهم ولا لأسلوب حياتهم وما يطلبه الإسلام الابتعاد عن الإسراف والتفاخر كما جاء فى كتاب الله «وكلوا واشربوا ولا تسرفوا »[ الاعراف – 31 ] وكما جاء فى الحديث الشريف «أنتم أعلم بأمور دنياكم «أى أن العرف والعادة وأسلوب الحياة من الأمور المتغيرة متروكة للناس، والإسلام أعظم من أن يختزل الإيمان فى عادات من نتاج مجتمعات وثقافة توقف نموها ولم تعد صالحة للحياة المتجددة ويتمسك بها الذين يعيشون فى كهوف الماضى ويرفضون ما يحدث حولهم من تغير هو سنة الحياة، ولا يفهمون أن الدين فى حقيقته علم وعمل وأخلاق وحضارة وممارسة للعقل والتفكير لتطوير الحياة والنهوض بالمجتمع ولن يتحقق ذلك بالجلباب القصير وإطلاق اللحية والأكل بالأصابع، فى عصر غزو الفضاء والذكاء الاصطناعي. وكل أدبيات السلفية الحديثة ليس فيها كلمة العلم أو العقل أو الاجتهاد أو التطور أو الحضارة .. ولكنها تدعو بإصرار إلى دفع المجتمع لكى يعيش فى الماضى البعيد غريبا عن الحاضر وما فيه من منجزات وتطورات وتغيرات..

هذا التيار المتخلف يتغلغل بين البسطاء ويدعوهم إلى الحكم بالكفر على الآخرين مخالفين بذلك الأمر الإلهى «فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر» وفى هذا الأمر تأسيس لحرية الإنسان ومسئوليته أمام الله وليس أمام أحد من البشر. وسنرى فى مواقف هذا التيار خطرا حقيقيا على الإسلام بل وعلى إنسانية الإنسان.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى