هيكل: من السجن إلى القصر الجمهورى!

فجر يوم ٣ سبتمبر ١٩٨١ كان هيكل نائمًا فى شقته بالإسكندرية حين دق الباب ووجد اثنين من ضباط أمن الدولة طلبا منه إعداد حقيبته خلال عشر دقائق. خارج الباب كان مجموعة من الجنود المسلحين بالمدافع الرشاشة، وأحد الضباط يمسك بجهاز لاسكلى يبلغ أولا بأول تفاصيل عملية الاعتقال. وفى مبنى مديرية الأمن بالإسكندرية وجد مئات من الجنود يحيطون بعشرات من السيارات وخليط من المعتقلين: شباب وشيوخ ومشايخ وقسس.
فى ساحة السجن كان حشد كبير من مشاهير السياسيين: فؤاد سراج الدين رئيس حزب الوفد وعبدالفتاح حسن الوزير الأسبق والقطب الوفدى الكبير، وفتحى رضوان، وزير الإعلام الأسبق، ومحمد فائق وزير الإعلام الأسبق، والمهندس عبدالعظيم أبوالعطا، وزير الرى الأسبق، والدكتور محمد عبدالسلام الزيات، وزير الدولة لشؤون مجلس الأمة فى بداية عهد السادات.
ومن قيادات الأحزاب كان بينهم الدكتور حلمى مراد، وزير التعليم الأسبق ونائب رئيس حزب العمل، وحامد زيدان رئيس تحرير جريدة الحزب، ومحمد أبوالفضل الجيزاوى وإبراهيم يونس من أقطاب حزب العمل، والدكتور فؤاد مرسى والدكتور إسماعيل صبرى عبدالله وفريد عبدالكريم وصبرى مبدى من قيادات حزب المجتمع، ومن النواب المستقلين الدكتور محمود القاضى، وعادل عيد، وكمال أحمد، وأحمد فرغلى وتم إسقاط عضوية مجلس الشعب عنهم.. ومع هؤلاء كان هناك معظم أعضاء مجلس نقابة المحامين وفى مقدمتهم نقيب المحامين عبدالعزيز الشوربجى، ومعهم أساتذة جامعات بارزون مثل الدكتور ميلاد حنا، والدكتور كمال الإبراشى، والدكتور عبدالمحسن حمودة، والدكتور مراد وهبة، ومن كبار المثقفين الدكتور عصمت سيف الدولة، وصلاح عيسى، وحسين عبدالرازق، وحمدين صباحى، ومن الشخصيات الدينية عمر التلمسانى، والشيخ المحلاوى، والشيخ كشك، ومن هؤلاء تم اعتقال قيادات نسائية كان من بينهن الدكتورة نوال السعداوى، والدكتورة لطيفة الزيات، ومع هؤلاء عدد من الشخصيات القبطية البارزة وفيهم أساقفة ومطارنة.
بعد اعتقال هيكل أرسل الرئيس السادات المهندس سيد مرعى إلى زوجته ليسألها إذا كانت تريد شيئًا، ولم تزره زوجته وأولاده فى السجن إلا مرة واحدة بعد شهرين من اعتقاله، وسمح لهم بنصف ساعة.
يقول هيكل: أعترف بأننى بدأت أفكر فى كتابة كتاب «خريف الغضب» منذ اللحظة الأولى لاعتقالى – وكان قد تمت مصادرة ما كان فى حقيبتى من الكتب والأوراق والأفلام والأدوية والنقود والملابس، وسمح لكل منا بغيار داخلى واحد ومنشفة وفرشة أسنان دون معجون أسنان – واقتاده حراس السجن إلى الزنزانة رقم (١٤) وكان وحده فيها، ووجد فيها عشر مراتب من المطاط، وعشر بطاطين تفوح منها رائحة الـ(د. د. ت) وحفرة فى ركن تمثل الحمام، ودخل عليه ثلاثة جنود أحدهم يحمل صفيحة علاها الصدأ فيها عسل أسود وآخر يحمل صفيحة أخرى ملأى بأرغفة الخبز وتغطى الاثنتين سحابة من الذباب. ثم انضم إليه فى الزنزانة إبراهيم طلعت وكمال أحمد من القيادات الناصرية وعدد من الشباب المتدينين.. وجاء ضابط برتبة لواء ومعه ثلاثة عمداء وخرجوا معه لتفتيش شقته فى الدقى وبيته الريفى فى برقاش، وصادروا بعض ما عثروا عليه من أوراق. وقال لهم إن الكل بمن فيهم الرئيس السادات يعرفون أننى منذ زمن طويل نقلت أوراقى السياسية التى أخشى عليها إلى خارج مصر، وبقى فى الزنزانة لا يبارحها لمدة أحد عشر يومًا، «وبعد ٥٥ يوما من انقطاع كامل سمح لنا بأن نتلقى سلال غداء وسلة غدائى كانت تزينها وردة حمراء من زوجتى». وفى الفترة الأخيرة نقل هيكل إلى قصر العينى للعلاج من آلام الكلى التى تحولت إلى بؤر سرطانية استلزمت بعد خروجه من السجن إجراء جراحة دقيقة فى الولايات المتحدة. وعقد الرئيس السادات مؤتمرًا صحفيًا فى قريته ميت أبوالكوم سأله مندوب محطة (إى. بى. سى) الأمريكية: إنك كنت فى الولايات المتحدة قبل أقل من أسبوع فهل أخطرت الرئيس ريجان بما تنوى عمله، فقال السادات لصاحب السؤال بانفعال (إذا لم نكن هنا فى بلد حر لكنت أخرجت مسدسى وضربتك بالنار)!.
وفى حديث إلى الأمة هاجم الرئيس السادات فؤاد سراج الدين، وقال إنه مثل لويس الثامن عشر الملك الفرنسى الفاسد الذى تم إعدامه ثم هاجم هيكل واتهمه بأنه ملحد، وبأنه يرى أن التيار الإسلامى هو موجة المستقبل وأنه صديق الملوك والرؤساء فى العالم العربى وخارجه وهذا يجعل منه مركز قوة، وأنه كوّن ثروة من عائد كتبه التى هاجم فيها مصر، وأنه أعطى للعالم الخارجى صورة مشوهة عن مصر وأخيرا أنه كان يرتب مع فؤاد سراج الدين لإصدار جريدة، ثم ركز الرئيس السادات هجومه على الشيخ المحلاوى وقال: هو الآن ملقى فى السجن مثل الكلب!.
واحتفل هيكل بعيد ميلاده السادس والخمسين يوم ٢٣ سبتمبر ١٩٨١ وهو فى زنزانته، واحتفل معه الصحفيون فى الزنازين الأخرى. وكان فى الزنزانة المجاورة له المهندس عبد العظيم أبوالعطا مريضًا بسرطان الكلى وتفاجئه الآلام فيصرخ عاليًا إلى أن مات فى الزنزانة.
وبعد ذلك بسنوات قال الدكتور صوفى أبو طالب وكان رئيسًا لمجلس الشعب فى سبتمبر ١٩٨١ فى حديث لمجلة الأهرام الإقتصادى إنه كانت له تحفظات على قرارات سبتمبر، وقالت السيدة جيهان السادات فى حديث فى مجلة المصور سنة ١٩٩٩ إن الرئيس السادات هو المسؤول الأول بلا شك، ولكن وزير الداخلية قدم له البيان وقال له: الناس دى خطرة وعاملة شوشرة وإحنا عاوزين نستلم سينا ومش عاوزين شوشرة.
ووقع حادث اغتيال الرئيس السادات ولم تكن هناك وسيلة ليعرف المسجونون إلا بعد أيام، يقول هيكل: عندما علمت باغتيال السادات سالت دموعى، وفى هذه اللحظة لم أذكر إلا أنه كان صديقًا.. وبعد ٩٠ يومًا فى السجن خرج هيكل بسيارة شرطة ليجد نفسه مع بقية المعتقلين فى القصر الجمهورى ليستقبلهم الرئيس الجديد!.
وبدأ فصل جديد..