ربع قرن من المفاوضات النووية.. إيران تخوص معركة “موت أو حياة”

 

رُبع قرن تقريبًا هو عمر المراحل المختلفة للمفاوضات حول الملف النووي الإيراني، إلا أن الجولة الحالية من المفاوضات، التي انطلقت أخيرًا في سلطنة عُمان في 12 أبريل/ نيسان، تأخذ أهمية خاصة وغير مسبوقة.

فهذه هي المرة الأولى التي لا يستطيع فيها النظام الإيراني أن يُقنع الداخل أو الخارج بأنه يُفاوض من موقع القوة، كما لا يستطيع الزعم بأنه يخوض المفاوضات للحفاظ على البرنامج النووي أو للخروج بنتيجة تُبرر الأثمان التي دفعتها إيران خلال العقود الماضية.

ولكن ما هو أهم من ذلك، هو أن النظام الإيراني اليوم لا يستطيع أن يُبدد التوقعات بأنه وصل إلى مرحلة غير مسبوقة من الضعف، وأن هناك احتمالًا جديًا لأن يسقط على نحو مفاجئ.

الضغوط الدولية والإقليمية على النظام الإيراني لا تزال تتصاعد، ولا يزال شبح المواجهة العسكرية حاضرًا بقوة. بينما سقط النظام السوري بشكل مفاجئ، وذلك في اللحظة التي ظهر فيها أنه يحقق انفراجات كبرى. وبإجراء مراجعة سريعة لأحوال النظام الإيراني منذ عام 1979 وحتى اليوم، يمكن القول إن النظام كان في أقوى حالاته، داخليًا وخارجيًا، خلال الفترة ما بين عامي 2018 و2019.

ففي تلك المرحلة، كان النظام الإيراني قادرًا على توجيه الضربات العسكرية، بشكل مباشر أو غير مباشر دون اعتبار للعواقب، كما ظهر في استهدافه لمنشآت أرامكو في سبتمبر/ أيلول 2019.

وكان دونالد ترامب الرئيس الأمريكي آنذاك، يفضل السعي لعقد لقاء مباشر مع نظيره الإيراني في نيويورك، في أكتوبر/ تشرين الأول 2018. كما تجنّب ترامب المواجهة العسكرية والرد على إسقاط إيران لطائرة الاستطلاع “RQ-4 Global Hawk” في يونيو/ حزيران 2019. وكان الجنرال قاسم سليماني لا يزال على قيد الحياة – ويبدو وكأنه “أكبر من الحياة” بحسب التعبير الإنجليزي (Larger than life).

وفي الإقليم، قادت الضغوط الغربية إلى إيقاف معركة الحُديدة الاستراتيجية في اليمن، في ديسمبر/ كانون الأول 2018. وفي العراق، كان حلفاء إيران يهيمنون على المشهد دون أي منغصات – إلى أن تغيّرت الأحوال مع تفجّر “مظاهرات تشرين” في أكتوبر/ تشرين الأول 2019. كما كانت أوضاع حلفاء إيران في الشرق المتوسط في أفضل حالاتها، فبشار الأسد استعاد حلب، وأجبر مقاتلي المعارضة على الانسحاب من دمشق ودرعا وحمص والتجمع في جيب إدلب الصغير، و”حزب الله” كان يهيمن على لبنان دون منافسة.

إلا أن كل هذه التفاصيل تغيّرت اليوم بشكل واضح نحو الأسوأ. فنظام بشار الأسد قد سقط بشكل مدوٍّ، و”حزب الله” يتخلى عن سلاحه تدريجيًا، وحلفاء إيران في العراق يتفاوضون مع الحكومة العراقية لتسليم سلاحهم، والحوثيون في اليمن يتعرضون لضربات عسكرية أمريكية غير مسبوقة، وهناك احتمال جدي بإعادة تحريك الحملات البرية ضدهم منذ توقفها في عام 2018.

ولعل أفضل من لخّص هذا التغيّر في أحوال إيران هو البروفيسور الأمريكي، الإيراني الأصل، محسن ميلاني، الذي قال، في 17 مارس/ آذار، في ندوة للمعهد الملكي البريطاني للشؤون الدولية (معهد تشاتام هاوس)، إنه إذا استخدمنا مقياسًا للقوة من 10 نقاط، فإن قوة إيران كانت في ذروتها، عند النقطة 10، قبيل اغتيال قاسم سليماني، إلا أنها اليوم عند النقطة 5 أو 6 فقط على هذا المقياس.

ولكن ما هو أخطر من هذا التراجع في القدرات المادية وانتشار الحلفاء المسلحين في المنطقة، هو اهتزاز صورة النظام الإيراني في الداخل، وبروز ظاهرة انتقاد وتجرؤ بحق مؤسسات النظام الإيراني، وبحق المرشد آية الله علي خامنئي نفسه.

 داخل إيراني مختلف

هل الداخل الإيراني اليوم هو نفسه الذي عهدناه في السابق، وخصوصًا إبان المفاوضات النووية قبل عقد من الزمن؟ هذا سؤال يحتاج إلى بحث دقيق ولتحديد مؤشرات موضوعية.

الأوضاع الاقتصادية والمعيشية والخدمية في إيران، على سبيل المثال، تتفاقم بوتيرة غير مسبوقة. العملة الإيرانية فقدت نصف قيمتها منذ وصول الرئيس الحالي مسعود بزشكيان للحكم في أغسطس/ آب 2024. ولكن يمكن أن نجد من يقول إن النظام الإيراني اعتاد تحمّل الأزمات الاقتصادية وإيجاد سبل البقاء.

التحركات الاحتجاجية في الداخل الإيراني تستمر بالتوسع. وتأخذ هذه التحركات أهمية خاصة مع انضمام أجيال جديدة إليها، خصوصًا ممن وُلد بعد عقود من رحيل نظام الشاه، وممن لا يرون أي مبرر للقبول بالنظام الإسلامي وللتخلي حتى عن حرياتهم الشخصية المتمثلة مثلًا بعدم الاختلاط وبإلزامية الحجاب.

ولكن هناك من سيقول إن التحركات الاحتجاجية في الداخل الإيراني هي تحركات قديمة، وعمرها قد يكون من عمر النظام الإيراني نفسه. ولهذا فهي قد لا تكون الآن مؤشرًا دقيقًا على ضعف النظام الإيراني.

وسائل الإعلام الغربية نشرت في الأسابيع الأخيرة تسريبات عدة حول النقاشات داخل النظام الإيراني، والتي تشير إلى تفاقم أزماته. ولكن لا يمكن التحقق بشكل مقنع من دقة ما تنشره هذه الوسائل.

ولكن ما هو واضح بشكل جلي ولا يمكن إنكاره، هو التغيير في مواقف الإصلاحيين والمعتدلين في الداخل الإيراني. فقد اعتاد هؤلاء على التزام الحذر في المواقف التي يتخذونها تجاه التيار الأصولي المسيطر على السلطة، خصوصًا فيما يتعلق بالمواقف الأكثر حساسية مثل العلاقة مع الولايات المتحدة أو التباين مع المواقف المعلنة بجلاء من جانب المرشد.

إلا أن الإصلاحيين والمعتدلين اليوم يبدون وقد تخلوا عن حذرهم، وباتوا أكثر جرأة في تحدي المرشد وتصوراته. وهذا ما يمكن ملاحظته مثلًا في النقاش الإيراني حول المفاوضات مع الولايات المتحدة، وخصوصًا حول رسالة ترامب لإيران.

المرشد الإيراني حاول مبكرًا قطع الطريق على أي نقاش داخلي حول المفاوضات، فأعلن خلال لقائه مع قادة القوات المسلحة، في 7 فبراير/ شباط، أن التفاوض مع الولايات المتحدة “ليس قرارًا حكيمًا ولا شريفًا ولا ذكيًا”.

وبعد أن أعلن الرئيس الأمريكي في 7 مارس/ آذار إرساله رسالة لإيران حول الملف النووي، خرج المرشد في خطاب علني، في 12 مارس/ آذار، وأنكر تلقيه أي رسالة من ترامب.

ولعل المرشد كان يعتقد أن هذا الإنكار كفيل بقطع الطريق على أي نقاش في الداخل الإيراني حول الحاجة للتفاوض مع الولايات المتحدة. ولكن بعدما نشرت وسائل الإعلام الأمريكية أن رسالة ترامب احتوت على تهديد باستخدام القوة، وبعدما ظهرت مؤشرات التحشيد العسكري الأمريكي في المنطقة، اضطرت الخارجية الإيرانية للاعتراف بتلقي رسالة ترامب، وبأنها أرسلت ردًا إيجابيًا عليها. الخارجية الإيرانية رفضت مطالبات الإيرانيين بالكشف عن محتوى رسالة ترامب، وأعلن الناطق باسمها، في 28 مارس/ آذار، أنه لا يجوز الكشف عن المراسلات الدبلوماسية.

إلا أن وزير السياحة السابق، في حكومة إبراهيم رئيسي، عزت الله ضرغامي، طالب في 29 مارس/آذار بالكشف عن محتوى الرسالة، واعتبر أن عدم القيام بذلك يعني أن الشعب الإيراني غير مؤهل.

التيار الأصولي اليوم يجد نفسه معزولًا في موقفه الرافض للتفاوض، بينما يجد الإصلاحيون والمعتدلون في ضعف النظام فرصةً للتشهير به والضغط عليه، ليبدأ التراجع في ملفات العلاقات الخارجية، ويصبح أكثر ضعفًا في الداخل، ولتفنيد سردية الأصوليين حول ضرورة المواجهة وتحمل ثمن المجابهة. الرئيس الأسبق حسن روحاني عاد إلى المشهد بعد رسالة ترامب، ليجري أربع مقابلات مع صحيفة “إيران” الحكومية، بمناسبة عيد النوروز (بين 21 مارس/ آذار و2 أبريل/ نيسان)، قال فيها إن المتشددين في الداخل الإيراني طالما حاولوا عرقلة الاتفاق النووي السابق.

وفي سبيل ذلك، قاموا بأشياء مختلفة شملت مهاجمة البعثات الدبلوماسية السعودية في إيران، وتهديد إسرائيل، ونقل أسلحة إلى الكويت.

حديث روحاني يشير لحوادث وقعت بين 2015 و2016، وكانت تهدف بوضوح إلى افتعال أزمات خارجية تقود إلى إسقاط الاتفاق النووي أو الحد من تداعياته. كسر روحاني، بعد عقد من الزمن، لصمته إزاء تلك الحوادث، ووصفها بأنها جزء من خطة منظمة من جانب قوى داخلية لإبقاء إيران في عزلتها، ليس بالتفصيل العابر، وليس بالحدث المنفرد.

صحيفة “مهد تمدن” الإصلاحية وصفت، في 17 مارس/ آذار، المتطرفين في الداخل الإيراني الرافضين للتفاوض بأنهم عمليًا جنود ترامب، وأنهم يعملون بعكس ما تحتاجه المصالح القومية لإيران. وفي 7 أبريل/ نيسان، رأت افتتاحية صحيفة “آرمان امروز” الإصلاحية أن رسالة ترامب تمثل فعلًا تصالحيًا، إلا أن هذه الرغبة من جانب ترامب، بحسب افتتاحية الصحيفة، تدفع كثيرين داخل إيران للشعور بخيبة أمل، وتدفعهم للعمل لمنع حصول التفاهم والحوار الذي قد يؤدي إلى التوصل إلى اتفاق.

لا يُخفي الإصلاحيون والمعتدلون إذًا رهانهم على أن الأصوليين باتوا ضعفاء وسيُضطرون للتراجع.

فبعد ثلاثة عقود من التزامه الصمت المطبق، خرج مسعود روغني زنجاني في عدة مقابلات مصورة ينتقد الأوضاع السياسية والاقتصادية في الداخل الإيراني.

والأهم بين هذه المقابلات تلك التي نُشرت في 25 مارس/ آذار، والتي قال فيها إن إيران تتحضر للتراجع مرة أخرى، ولتجرّع السم على نحو ما حصل في 1988، وذلك بسبب الخزينة الفارغة، ونقص النقد الأجنبي، وتنامي العجز، وعدم القدرة على دفع الرواتب، بحسب زنجاني الذي قال أيضًا إن المرشد يعارض رفاهية الشعب الإيراني. زنجاني هو الرئيس الأسبق لمنظمة التخطيط والموازنة الإيرانية في عهد الرئيس الأسبق هاشمي رفسنجاني (1989–1997)، وقد التزم الصمت منذ أواخر عهد رفسنجاني.

وليس الإصلاحيون والمعتدلون وحدهم من يدرك أن النظام والمنطقة إجمالًا تمر بظروف غير مسبوقة. فالتيار الأصولي نفسه اضطر للتراجع في ملفات عدة. فقد أجّل النظام تطبيق قانون إلزامية الحجاب، الذي يواجه رفضًا شعبيًا واسعًا.

وفي 15 مارس/ آذار، قال النائب محمود نبويان، نائب رئيس لجنة الأمن القومي في البرلمان الإيراني، إن قانون إلزامية الحجاب قد أُقر في سياق إقليمي مختلف تمامًا عن الظرف الحالي، فقد أُقر قبل سقوط نظام الأسد. وتطبيق هذا القانون غير جائز الآن، لأنه سيُضعف النظام الإسلامي.

وأضاف نبويان أن المجلس الأعلى للأمن القومي قد علّق تطبيق القانون خشية إشعال فتنة داخلية شبيهة بما حصل في سوريا.

وفي 18 مارس/ آذار، رفعت السلطات الإيرانية بصمت الإقامة الجبرية المفروضة منذ 14 عامًا عن مهدي كروبي، أبرز قيادات التيار الإصلاحي، والذي أثار نقمة الأصوليين بسبب موقفه خلال “الثورة الخضراء” في 2009.

ما سبق هو مجرد أمثلة يمكن العثور عليها اليوم في الإعلام الإيراني، والاستمرار في متابعة هذا الإعلام سيكشف تفاصيل لم يكن من الممكن تصورها منذ عقد من الزمن. التيار الأصولي يُضطر للتراجع بشكل سريع ومهين عن مواقفه الصقورية – مثل اعتبار المرشد أن المفاوضات الآن هي فعل غير شريف وغير ذكي.

والإصلاحيون والمعتدلون يتحركون استعدادًا لتلقف الفرصة المتمثلة بضعف التيار الأصولي في الخارج والداخل.

فما هي الخيارات المتاحة للتيار الأصولي لكي يؤكد – للداخل والخارج – أنه بعيد عن السقوط، وأن قبضته ستبقى محكمة على السلطة؟ تجربة الأنظمة السياسية التي تواجه اختبارات مشابهة لما يواجهه النظام الإيراني اليوم تشير إلى أنها ستنزع، في نهاية المطاف، لإظهار القوة وتجنب البراغماتية والتنازلات.

ولكن، هل يمكن للتيار الأصولي اليوم أن يلجأ إلى مثل هذه الخيارات مع الاستمرار بالتفاوض مع الولايات المتحدة؟ ما يقوم به التيار الأصولي الآن في إيران هو الرهان على الوقت عبر الجلوس للتفاوض مع الولايات المتحدة، والرهان على رغبة ترامب بالحصول على صورة إنجاز، ولكن مع تجنب القيام بأي خطوة جذرية، سواء حول الملف النووي أم غيره من الملفات الخارجية، أم حول ما يحصل في الداخل الإيراني.

وقد اعتاد التيار الأصولي وصف مثل هذه التحركات بـ”الصبر الاستراتيجي”.

إلا أن الواقع اليوم مختلف. والوقت الذي يمضيه الأصوليون اليوم في تجنب اتخاذ القرارات الجذرية، يشهد تقليصًا لنفوذهم في الخارج وتهشيمًا لهيبتهم في الداخل. فمتى سيدرك الأصوليون حجم التغيير؟ وماذا سيفعلون عندما يدركون ذلك؟ لا أحد يمتلك جوابًا يقينيًا. إلا أن الأكيد أن تاريخًا جديدًا يُصاغ اليوم أمام أعيننا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى