الإسلام والدولة المدنية «3»

كان الدكتور محمد أحمد خلف الله نائب رئيس جامعة عين شمس ومدير معهد البحوث والدراسات العربية التابع لجامعة الدول العربية، وعضو مجمع اللغة العربية، وعضو مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر وله أبحاث عن القرآن ومشكلات حياتنا المعاصرة، وعن الإسلام والدولة المدنية.

يقول الدكتور خلف الله فى هذا البحث إن الدولة المدنية هى الدولة التى أنهت الصراع بين السلطة الدينية والسلطة السياسية وحددت مجال كل منهما بعد صراع دام فى أوروبا أكثر من عشرة قرون، فقد كان الإمبراطور أو الملك يدعى أن له صفة دينية وأنه نائب الله على الأرض ومن يعارضه يعارض إرادة الله، وكذلك يدعى رئيس الكنيسة الكاثوليكية أنه يمثل المسيح وعلى الملك أن يمتثل لكلمة المسيح. وجاء وقت كان فيه البابا يمثل السلطة الدينية وهى الأعلي، وكبار الكهنة هم أصحاب السلطة المقدسة والإمبراطور أو الملك يمثل السلطة السياسية التى تخضع للكنيسة. وعلى سبيل المثال كان البابا جيلازيوس الأول يقول: «إن سلطة الكنيسة هى سلطة تشريعية وسلطة الدولة هى سلطة تنفيذية، وإن السلطة التشريعية تعلو السلطة التنفيذية».

وجاء بعد ذلك جريجورى الأول فدعا إلى أن تكون البابوية حكومة ثيوقراطية. وكان يردد عبارة فى إنجيل مرقص «من أراد أن يصير فيكم عظيما يكون لكم خادما» والبابا هو المسئول أمام الرب فقط ولذلك ينبغى أن تكون سلطته مطلقة وغير مقيدة حتى يتسنى له القيام بالعمل الذى اختاره الرب له – وعلى ذلك كان تنصيب الملك أو الإمبراطور يتم فى احتفال دينى حسب القانون الكنسى والبابوي، ويتم فى هذا الاحتفال مسح رأس الملك بالزيت المقدس وكأنه أحد الأساقفة، وبذلك ساد نظام الملكية الثيوقراطية .. وجاء جريجورى السابع ليعلن أن السلطة الشرعية الوحيدة فى العالم هى سلطة الكنيسة وأن أسقف روما هو نائب المسيح على الأرض..

وظل الأمر على هذا الحال إلى أن بدأت مرحلة جديدة فى بريطانيا وفرنسا ظهر فيها تيار تأثر بأفكار إسلامية عن طريق أبناء المجتمع الأوروبى الذين كانوا يدرسون فى الجامعات الإسلامية بقرطبة فى الأندلس وكانت أهم هذه الأفكار عدم وجود سلطة دينية تنوب عن الله فى الأرض. وكل من على الأرض من البشر هم بشر ليس لأحد منهم قداسة .. وأن الكنيسة ليست مسئولة أمام الرب عن أعمال العباد، ففى الإسلام المسئولية فردية وكل إنسان مسئول عما يفعل «وكلهم آتيه يوم القيامة فردا» [مريم – 95] و «وكل إنسان ألزمناه طائره فى عنقه.. » [الإسراء – 13] و «يا أيها الناس اتقوا ربكم واخشوا يوما لا يجزى والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئا» [لقمان – 33] وإذا كانت المسئولية فردية فإن الكنيسة ليست مسئولة أمام الرب عن أعمال العباد. وليس هناك إنسان مقدس حتى الأنبياء فهم – كما ذكر الله فى كتابه – بشر اختارهم الله لدعوة الناس إلى عبادة الله، وإن إدارة شئون الحياة فى المجتمع تتم باختيار الناس لمن يملك السلطة أيا كان خليفة أو ملكا أو أميرا أو رئيس جمهورية، وإدارة شئون الدولة تكون وفقا للمصلحة وتدخل فيما يسمي.. «شئون الدنيا».

وساعد تخلف السلطة الدينية فى أوروبا ووقوفها على تراث الأقدمين على تقليص سلطة الكنيسة وعدم قدرتها على متابعة المستجدات فى إدارة الدولة وفهم القضايا السياسية الداخلية والخارجية، وتضاءلت سلطة الكنيسة أكثر أمام مؤسسات الدولة ومن فيها من العلماء المتخصصين فى علوم بعيدة عن العلوم التى تدرسها الكنيسة. واقتنع الناس بأن ما يقدمه العلم من خدمات لتحسين حياتهم كلما تضاءلت سلطة الكنيسة فى التدخل فى إدارة الدولة.

والخلاصة أن تاريخ الصراع بين السلطة الدينية والسلطة السياسية يمثل مشكلة فى تاريخ أوروبا وليست من مشكلات الديانة الإسلامية، ولا هى من مشكلات الكنيسة القبطية المصرية.. وإن كان قد ظهر فى التاريخ الإسلامى خلفاء ادعوا أنهم يمثلون إرادة الله على الأرض. فإن مع التقدم العلمى والحضارى استقر مفهوم الدولة باعتبارها مؤسسة سياسية لها اختصاصات وعليها مسئوليات، والمؤسسة الدينية لها مكانتها العالية فى كل ما يتعلق بالأمور الدينية والقيم والمعاملات والأخلاق التى جاء به الدين.

والدين الإسلامى واضح فى عدم وجود سلطة دينية مقدسة ولهذا لا وجود للخصومة بين السلطتين الدينية والسياسية بل هناك تعاون وتفهم والسلطة الدينية تدعو إلى الله وتعلم الناس أمور دينهم وتصحح ما فى سلوكهم من انحرافات وهى فى ذلك تدعو بالحكمة والموعظة الحسنة لا تسعى إلى سلطة أو سيطرة .. والقرآن الكريم أكد فى أكثر من موضع أن النبى صلى الله عليه وسلم بشر.. «قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلى أنما إلهكم إله واحد» [الكهف – 110] و«قل سبحان ربى هل كنت إلا بشرا رسولا».. الإسلام لا يعرف الإنسان المقدس .. وكذلك نجد الكنيسة المصرية قد أخلصت لمذهبها الدينى وتفرغت للعبادة وتعليم الدين ولم تتدخل فى شئون السلطة السياسية. ويقودنا البحث إلى أن الإسلام يدعو إلى الدولة المدنية ولا يوجد نص فى الكتاب أو السنة يدعو إلى دولة دينية يحكمها رجال الدين أو يحكمها من يدعى أنه يمثل الله على الأرض. وهناك إطار شرعه الله يلتزم به الحاكم والمحكوم .. العدالة .. الحرية .. المساواة … العقل .. المسئولية الاجتماعية .. فالدولة المدنية تلتزم بما جاء به الإسلام فى القرآن والسنة تجعل الحكم لأهل الحكم وأمور الدين رجال الدين وهذه المعادلة هى ضمان استقرار وتقدم المجتمع بالتعاون ولا يطغى أحد أطراف المعادلة على الآخر.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى