لماذا تتجه أذربيجان نحو القرن الأفريقي؟

بقلم/أحمد فهمي
شكلت استعادة أذربيجان السيطرة على إقليم “ناغورني قره باغ” في عام 2023، نقطة تحول محورية في سياساتها الخارجية، إذ شرعت باكو في إعادة تعريف أدوارها الإقليمية والدولية، متجاوزة إطارها الجغرافي التقليدي في جنوب القوقاز نحو آفاق جيوسياسية أوسع، ويأتي هذا التوجه في سياق ما يمكن وصفه بـ”التحول الطموح” في السياسة الخارجية الأذربيجانية، التي باتت تتسم بانفتاح متزايد وسعي واضح لبناء شراكات استراتيجية خارج دوائر التأثير التقليدية.
وفي هذا الإطار، تبرز الساحة الأفريقية كأحد أبرز الميادين التي تسعى أذربيجان إلى التموضع فيها، في محاولة للتحول تدريجيًا من مجرد لاعب هامشي إلى فاعل يمتلك أهدافًا استراتيجية واضحة. فقد شهد العقد الماضي، تبلور ملامح دور خارجي متصاعد لأذربيجان؛ حيث عملت بشكل منهجي على توسيع علاقاتها في منطقة القرن الأفريقي. وقد تجسد هذا الانخراط عبر توقيع اتفاقيات تعاون في مجالات الأمن والدفاع، وتفعيل قنوات التواصل الدبلوماسي والبرلماني، إلى جانب إطلاق شراكات تنموية واعدة. ويثير هذا التوجه العديد من التساؤلات: لماذا اختارت أذربيجان التوجه نحو هذه المنطقة المعقدة والمليئة بالتنافسات الإقليمية والدولية؟ وما هي الآفاق المستقبلية لدورها في القرن الأفريقي؟
ملامح الانخراط
جاء الانخراط الأذربيجاني في أفريقيا تتويجًا لنهج تدريجي اعتمد على أدوات القوة الناعمة، وفي مقدمتها المساعدات الإنسانية والمنح التعليمية والمبادرات الثقافية لبناء روابط مع شعوب المنطقة. ولاحقًا، تطور هذا النهج ليصبح أكثر مؤسسية واتساعًا، مستفيدًا من مقومات مثل غياب الإرث الاستعماري والهوية الإسلامية واحترام سيادة الشركاء، على نحو قريب من النموذج التركي.
وفي سياق تعزيز هذا التوجه، نظمت أذربيجان عددًا من الفعاليات الكبرى لترسيخ حضورها في القارة الأفريقية، من أبرزها تنظيم ثلاثة مؤتمرات رئيسية في عام 2023 ركزت على قضايا ما بعد الاستعمار في أفريقيا: كمؤتمر “أفريقيا ما بعد الاستعمار”، ومنتدى “النظام العالمي العادل” لتعزيز مبادئ التحرر من السلاسل الاستعمارية، إلى جانب جلسات خاصة ضمن مؤتمر المناخ (COP29) سلطت الضوء على استمرار استغلال القوى الاستعمارية السابقة للبيئة الأفريقية. وقد استثمرت أذربيجان هذه المنصات لتأكيد توجهها نحو بناء شراكات قائمة على المصالح المشتركة والاحترام المتبادل، بعيدًا عن أي مظاهر للهيمنة.
كذلك، مثلت رئاسة أذربيجان لحركة عدم الانحياز (2019–2023) خطوة محورية في تعزيز حضورها بالقارة الأفريقية؛ حيث وفرت لها منصة فاعلة لبناء علاقات استراتيجية مع أكثر من 50 دولة أفريقية، وأسهم هذا الدور في ترسيخ صورة باكو كداعم قوي لمبادئ الاحترام المتبادل والتعاون البناء؛ مما مهد الطريق لبناء شراكات قائمة على المصالح المشتركة مع العديد من الدول الأفريقية.
وفي هذا السياق، برزت منطقة القرن الأفريقي كمحطة رئيسية لهذا التوجه الأذري، خاصة في دول: الصومال، وجيبوتي، وإثيوبيا، حيث سعت باكو إلى بناء شراكات ثنائية تتلاءم مع الخصوصيات الوطنية والسياقات الداخلية لكل دولة، كما سيتضح فيما يلي:
- تطور التعاون مع الصومال: شهدت العلاقات الأذربيجانية–الصومالية نقلة نوعية في فبراير 2025، مع توقيع سلسلة من اتفاقيات التعاون خلال زيارة الرئيس الصومالي حسن شيخ محمود إلى باكو، شملت مجالات الدفاع والطاقة والتعليم والخدمات العامة، إلى جانب مشروعات للبنية التحتية والموانئ والزراعة. وعلى المستوى الأمني، تم إقرار اتفاقيات للتعاون العسكري والتصنيع المشترك، صادق عليها البرلمان الأذربيجاني في شهر أبريل الماضي. كما عرضت باكو على مقديشو نماذجها في تطوير أنظمة الحوكمة الحديثة، لا سيما تجربة “أسان خدمت” التي اشتهرت بها أذربيجان. دبلوماسيًا، اتفق الجانبان على تعزيز التنسيق في المحافل الدولية، بما يدعم مواقف أذربيجان في قضاياها الحيوية ويعزز حضورها في أفريقيا. وفي الإطار الثقافي، أعلنت باكو زيادة المنح الدراسية المقدمة للطلاب الصوماليين، دعمًا لنفوذها الثقافي في القارة.
- تعزيز العلاقات مع جيبوتي: عملت أذربيجان وجيبوتي على تعزيز التعاون الثنائي وتنويع مجالاته، مع التأكيد على أهمية التنسيق والدعم المتبادل في القضايا المشتركة. وجسدت مشاركة باكو في منتدى جيبوتي الدولي 2025، عبر صندوق النفط الحكومي الأذربيجاني (SOFAZ)، حرصها على استكشاف الفرص الاستثمارية الواعدة في جيبوتي. وقد شكل اعتراف البرلمان الجيبوتي بمجزرة “خوجالي” عام 1992 علامة بارزة على التضامن مع أذربيجان؛ مما أسهم في ترسيخ متانة العلاقات الثنائية وتعزيز مواقف باكو على الساحة الدولية. كما توسعت العلاقات بتوقيع اتفاقيات عدة؛ أبرزها اتفاقية الطيران المدني، التي عززت الربط الجوي وزادت فرص التبادل التجاري، مع تعزيز موقع جيبوتي كممر لوجستي بين أفريقيا وآسيا الوسطى. إضافة إلى ذلك، نفذت أذربيجان مشاريع تنموية عبر الوكالة الأذربيجانية للتنمية الدولية ومؤسسة حيدر علييف، شملت دعم القطاع الصحي من خلال توفير المعدات الطبية.
- التعاون الاقتصادي مع إثيوبيا: يشكل التعاون بين أذربيجان وإثيوبيا نموذجًا فعالًا لتعزيز العلاقات الاقتصادية والزراعية؛ حيث تم في ديسمبر 2024 توقيع اتفاقية تعاون بين منطقتي التجارة الحرة في دير داوا في أثيوبيا وآلات في أذربيجان، لدعم قدرات دير داوا عبر تبادل الخبرات في تطبيق نظام “النافذة الواحدة”. وفي إطار توسيع هذا التعاون، أبدت باكو اهتمامًا خاصًا بتعزيز الشراكة مع أديس أبابا في مجالات الزراعة والاقتصاد، مع التركيز على تدفق الاستثمارات وتوسيع التعاون الزراعي، لا سيما في مجالات الثروة الحيوانية، والزراعة الرقمية، وإدارة المياه، بما يتماشى مع جهود إثيوبيا لتعزيز صادراتها الزراعية وزيادة قيمتها المضافة.
دوافع التوجه
تتحرك أذربيجان نحو منطقة القرن الأفريقي مدفوعة بمجموعة من المصالح الاستراتيجية والاقتصادية، أهمها ما يلي:
- الضغط على النفوذ الفرنسي: تمثل محاولة أذربيجان للحد من النفوذ الفرنسي أحد الدوافع الاستراتيجية الرئيسية لتحركاتها في أفريقيا. وتستفيد باكو من تصاعد مشاعر الاستياء في العديد من الدول الأفريقية تجاه السياسات الفرنسية؛ مما يسمح لها بطرح نفسها كشريك أكثر استقلالية أمام دول القرن الأفريقي، خاصة في ظل مساعي باريس لإعادة تموضعها في المنطقة بعد انسحابها وتراجع نفوذها في غرب أفريقيا ومنطقة الساحل. ويرتبط هذا التوجه أيضًا بتصاعد التوترات بين أذربيجان وفرنسا، على خلفية دعم باريس لأرمينيا، وهو ما انعكس في خطوات عملية، مثل تأسيس أذربيجان لـ”مجموعة مبادرة باكو”، التي تهدف إلى دعم حركات التحرر الوطني ومكافحة الاستعمار. ومن خلال هذه المبادرة، تسعى باكو إلى بناء تحالفات جديدة تسهم في تقليص النفوذ الفرنسي في مناطق نفوذه التقليدية.
- تعزيز العلاقات مع الدول الداعمة لقضية قره باغ: قدمت العديد من الدول الأفريقية، وخاصة الصومال وجيبوتي، دعمًا ملحوظًا لأذربيجان خلال نزاع قره باغ، سواء في المحافل الدولية أو من خلال تبني مواقف سياسية مؤيدة. وتسعى باكو إلى ترجمة هذا الدعم إلى شراكات أعمق من خلال تعزيز علاقاتها السياسية والاقتصادية مع هذه الدول، في مسعى لترسيخ تحالفات استراتيجية طويلة الأمد. ويتجسد هذا التوجه عبر تقديم مساعدات تنموية، وتوفير منح دراسية، وعقد اتفاقيات تعاون ثنائي تسهم في تعزيز مكانة أذربيجان كفاعل موثوق وشريك أساسي في جهود التنمية.
- استلهام النموذج التركي في أفريقيا: لا يمكن فصل الحراك الأذربيجاني في أفريقيا عن التأثير التركي؛ إذ تُملي العلاقة الوثيقة بين باكو وأنقرة تقاطعًا واضحًا في الرؤى والسياسات الخارجية. وتحرص أذربيجان على محاكاة النموذج التركي الناجح في التغلغل داخل القارة الأفريقية، سواء من خلال الزيارات الرسمية، أو تنفيذ المشاريع الاقتصادية، أو تعزيز التعاون في مجالات التعليم والصحة والدفاع. ويأتي هذا التوجه في إطار رؤية جيوسياسية مشتركة بين البلدين، ضمن تحالف تركي-أذربيجاني يمتد تأثيره من آسيا الوسطى إلى عمق القارة الأفريقية.
- صناعة النفوذ خارج الغرب التقليدي: تسعى أذربيجان إلى توسيع دورها على الساحة الدولية لتصبح أكثر تأثيرًا، خاصة تجاه البلدان النامية، بعد أن كان تركيزها في السابق منصبًا على أوروبا. تجسد هذا الطموح بوضوح خلال فترة رئاستها لحركة عدم الانحياز؛ حيث عملت على تنشيط أطر الحركة عبر إطلاق مبادرات جديدة مثل منتدى الشباب والمنصة البرلمانية، بالإضافة إلى تعزيز أطر التعاون المؤسسي بين الدول الأعضاء. وتعد أفريقيا عنصرًا محوريًا في هذه الاستراتيجية، حيث تروج باكو لشراكات متكافئة مع القارة تقوم على التنمية المشتركة وتبادل الخبرات، بعيدًا عن الهيمنة الغربية التقليدية.
- الاعتبارات الاقتصادية والتنموية: تسعى أذربيجان إلى تنويع اقتصادها وتقليل اعتمادها على النفط والغاز؛ مما يدفعها للبحث عن أسواق جديدة لمنتجاتها وتأمين مصادر بديلة للمواد الخام. وفي هذا السياق، توفر أفريقيا فرصًا كبيرة؛ نظرًا لما تمتلكه من موارد طبيعية غير مستغلة بالكامل؛ مما يفتح أمام أذربيجان فرصًا متنوعة في قطاعات مثل الطاقة والمعادن والموارد الطبيعية الأخرى، وهذا يتيح لها تطوير مشاريع مشتركة واستثمار هذه الموارد بشكل فاعل؛ مما يعزز فرص التعاون الاقتصادي والتنموي بين أذربيجان والدول الأفريقية.
التوقعات المستقبلية
من المتوقع أن يشهد نفوذ أذربيجان في القرن الأفريقي تصاعدًا تدريجيًا، مع سعي باكو لترسيخ مكانتها كفاعل إسلامي معتدل قادر على التواصل مع النخب الأفريقية، خاصة في الدول ذات التركيبة الدينية المعقدة مثل الصومال. كذلك، يبرز دور أذربيجان في مجالات الطاقة والبنية التحتية، بالإضافة إلى تعزيز الروابط الاقتصادية بين أفريقيا وآسيا الوسطى، وهو ما يعزز فرصها في بناء شراكات استراتيجية تعود بالنفع على جميع الأطراف المعنية.
وفي ظل التحديات الأمنية المتزايدة في منطقة القرن الأفريقي، بما في ذلك النزاعات المسلحة والتهديدات الإرهابية، يبدو أن أذربيجان ستتمكن من تعزيز حضورها عبر الدعم الإنساني والدفاعي، بما في ذلك تقديم التدريب العسكري وبناء الشراكات الأمنية، وهذا يعكس قدرة أذربيجان على استغلال الفرص التي تتيحها التحديات الأمنية لتوسيع نطاق تأثيرها في المنطقة.
مع ذلك، يتعين على باكو التكيف مع تعقيدات التوسع في القرن الأفريقي نتيجة تشابك المصالح الإقليمية والدولية؛ الأمر الذي يفرض على أذربيجان اتباع دبلوماسية مرنة تمكنها من موازنة استغلال الفرص المتاحة مع تجنب الانزلاق في صراعات قد تؤثر في مكانتها في المنطقة. في هذا السياق، تسعى أذربيجان إلى وضع قواعد خاصة بها في التعامل مع القارة الأفريقية؛ مما يتيح لها بناء شراكات استراتيجية طويلة الأمد مع دول القرن الأفريقي.
من جانب آخر، تواجه أذربيجان تحديات في تواصلها مع إريتريا؛ حيث كشفت حادثة احتجاز ثلاث سفن أذربيجانية وطواقمها بعد دخولها المياه الإقليمية الإريترية في نوفمبر 2024 عن الصعوبات التي قد تواجهها في هذه العلاقة؛ حيث استغرق إطلاق سراح 18 مواطنًا أذربيجانيًا عدة أشهر؛ مما أبرز التحديات التي قد تعرقل تطوير التعاون بين البلدين في المستقبل.
ختامًا، تخطو أذربيجان نحو مرحلة جديدة من التعاون مع القارة الأفريقية، مستندةً إلى مبادئ المنفعة المتبادلة والاحترام المشترك، بعيدًا عن أنماط الهيمنة والاستغلال. وفي ظل التحولات التي تشهدها أفريقيا؛ حيث لم تعد دول القارة تكتفي بدور المورد للموارد الطبيعية، بل باتت تسعى إلى شراكات تعزز استقلالها وتدعم مسار تنميتها الشاملة، تبرز أذربيجان كطرف فاعل قادر على بناء علاقات تقوم على أولوية تحقيق التنمية المستدامة ونقل التكنولوجيا، بما يسهم في تعزيز نهضة القارة ويخدم مصالح الجانبين، ويُرسخ دور باكو كلاعب مؤثر في الساحة الأفريقية.