نـجيب محفوظ .. من الشك إلى اليقين

تعرض نجيب محفوظ لمحاولة اغتيال، وكان الدافع لهذه الجريمة اقتناع شاب جاهل بأن نجيب محفوظ «كافر» وهو لم يقرأ شيئا من أدب نجيب محفوظ بل كان أميًا لا يقرأ. وكان هذا الحادث إنذارا بأنه من السهل على الجماعات الإسلامية إقناع الشباب بتكفير من يختلف معه لأنه لم يجد التربية الدينية الصحيحة.

وقد مر نجيب محفوظ فى شبابه بمرحلة الشك متأثرا فى ذلك بالفلسفات المادية الوضعية بحكم دراسته للفلسفة فى الجامعة، وبعد تخرجه فكر فى الحصول على الدكتوراه فى الفلسفة وسجل رسالة الماجستير وتحول إلى الأدب، وفى هذه الفترة كان يكتب مقالات فى الفلسفة ولم يكن غريبا أن يمر بهذه المرحلة، فقد مر بها فلاسفة ومفكرون فى كل العصور أشهرهم الإمام أبو حامد الغزالى الذى تحدث عن هذه التجربة فى كتابه الشهير «المنقذ من الضلال» ومر بها ديكارت مؤسس الفلسفة الحديثة، ومر بها مصطفى محمود وتحدث بالتفصيل عن هذه التجربه، وطه حسين مر بمرحلة الشك وغيرها من كبار المفكرين وقادهم الشك فى النهاية إلى الإيمان على أساس عقلي.

البعض يرى أن مرحلة الشك عند نجيب محفوظ فى مرحلة الشباب موقف دائم صاحبه طول حياته، وفى ضوء هذا الفهم القاصر يحكمون عليه، وهذا ما جعل الجماعات الإرهابية تدفع بالشاب الجاهل ليحاول قتله ويتسبب فى إعاقته عن الكتابة فترة طويلة وإصابته بحالة نفسية شخصها الدكتور يحيى الرخاوى بأنها «اكتئاب عميق».

ومن يجيد قراءة نجيب محفوظ سيجد أنه بالدراسة والوعى وصل إلى مرحلة من الإيمان أقرب إلى التصوف وسيجد فى رواياته «التكية» التى ترتفع منها أصوات الذكر والتسبيح، وفى الثلاثية نجد السيد أحمد عبدالجواد وابنه ياسين ينغمسان فى اللهو والمتع الحسية وينتهى بهما الحال إلى التوبة وطلب المغفرة والتسليم لله. وفى كتاباته وأحاديثه يتحدث نجيب محفوظ كثيرا عن الإيمان بالله كضرورة لتكامل إنسانية الإنسان، وفى المقالات القصيرة التى كان يكتبها فى الأهرام فى «وجهة نظر» كتب مقالات عديدة عن طبيعة الدين بأنه ليس علما من العلوم التى تفرض على التلاميذ للإمتحان ولكنها تربية روحية تتجلى فى المعاملات والسلوك، وينتقد مناهج التعليم التى تعود الطالب على حفظ آيات وموضوعات لكى يمتحن فيها ثم ينساها بعد ذلك ولا تنعكس على أخلاقه ومعاملته للناس، وبذلك ينشأ وهو يعتبر أنه لا علاقة بين الدين والحياة اليومية وبين قيم النظافة والصدق والأمانة وحب الخير للآخرين وإتقان العمل.

وبالتأكيد لم تكن الحقيقة فى الاعتداء على نجيب محفوظ هى إتهامه بالكفر ولكن كان السبب هو هجومه على الجماعات الإرهابية التى إستباحت الدماء التى حرمها الله وتكراره القول بأنه ما كان يخطر على البال أن يجئ يوم يصبح فيه مجتمعنا المؤمن موضع إتهام ويوصف بالجاهلية والكفر، ويقال إن الوطنية بدعة، وأن الاعتماد على العقل خروج على الشرع، وأن الفن حرام وبهذا زلزلت الأرض تحت أقدامنا ودارت رؤوسنا.

وكتب نجيب محفوظ: قطعت مرحلة طويلة من العمر خبرت فيها مراحل شتى من السرور والألم، وفيها معالم لا أذوق للحياة معنى بدونها، أقدمها وأرسخها الإيمان بالله ورسله وما يضيفه ذلك على دنيانا من قداسة وأنوار مهما اعتراها من شوائب ونكسات وبعد الإيمان بالله يأتى حب الوطن وأهله وتاريخه وآماله وركيزته الجوهرية وهى الوحدة الوطنية التى لا تفرق بين فرد وفرد بسبب عقيدة أو رأى أو عنصر، فالوطن والوحدة الوطنية اسمان لمسمى واحد، فلا وطن بدون وحدة ولا وحدة بدون وطن، وأى مساس بهما لا يقل شناعة فى مجاله عن الشرك بالله فى مجاله .. وقد وصلت إلى أن الإيمان بالعقل هو أهم ما يميز الإنسان، ومن يتعرض للعقل وحقه المشروع فى البحث عن الحقيقة فإنه يصيب الإنسان فى صميمه ويقتلع هويته وكرامته. وإن للدين جانبا نظريا يتضمن الأصول والقواعد والرؤية، وجانبا عمليا يتعلق بسلوك الفرد فى علاقته مع ذاته وعلاقته مع مجتمعه ومع دنياه وهو يعد نفسه لآخرته.ولا يكتمل إسلام المسلم إلا بالجانبين معا.

ومن الغريب أن يتهم الجهلة والمغرضون نجيب محفوظ بالبعد عن الدين، وهو الذى بنى مسجدا كان يعتكف فيه للعبادة ولم يعلم بذلك أحد إلا بعد رحيله.

والجماعات الدينية المنحرفة لديها سوء فهم للدين يبدو فيه المجتمع كافرا، والعلاج يبدأ بتطهير المجتمع ومحو ما فيه من تشوهات ودفعه فى طريق التقدم الاقتصادى والاجتماعى والثقافى وإحترام حقوق الإنسان وإرساء قيم العدالة والحرية، فليس هناك طريق لعلاج الانحراف إلا بالحضارة.

هذه الأفكار التى تكررت فى كتابات نجيب محفوظ هى التى أثارت الجماعات الإرهابية التى ترفع شعارات الإسلام لأنها تكشف الزيف والتضليل فى مواقفها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى