علاقةُ الهندسةِ بالشعرِ.. تستحقُ التأمل


بقلم محمود سلطان
ياسر أنور.. درسَ الهندسةَ “الكهربائية”، وعلاقةُ الهندسةِ بالشعرِ، تستحقُ التأمل، ربما يكونُ ذلك في مقالٍ لاحق، فضلاً عن حضور التخصصِ في قدرة النصِ على الدخولِ في علاقة “تدثر حميمي” مع المتلقي: مهندس الخرسانة (مفرداته كتل خرسانية/فظة).. ومهندس الكهرباء Electrical Engineer بطبيعة عملهِ مثقلٌ بطاقة من الرومانسية المفرطة التي لا يقوى على إخفائها في علاقاته مع “الجنس اللطيف” وتجلياتها الإبداعية.
ياسر أنور .. من هذا النوع، فضلا ًعن أنه استطاعَ أن يتكئَ إلى تراكم معرفي واسعٍ، بحكم معرفته لعدة لغات أجنبية، واطلاعه ـ الذي لم ينقطعْ ـ على الآداب الغربية ومدارس النقد في حواضنها الأصلية، وأذكر أنه تحدث معي طويلا ـ ذات ليلة ـ عن البحور في الشعر الإنجليزي.
في السياق.. تكتظُ سيرتُهُ الذاتية بتأليف عشراتِ الكتب في العلوم الدينية واللغة المصرية القديمة وتماسها مع البيئة الثقافية وخلفياتها الاجتماعية في القصص القرآني.. ما جعل أنور على خلافٍ جذريٍّ مع “العقيدة الكونية” الغربية من جهة ومع مركزية العلوم التطبيقية الغربية أيضا، التي يعتبرها جزءًا من أدوات الاستعمار في نسخته الحريرية والتحايلية والناعمة.
هذا التراكم المعرفي، بالتأكيد يترك ـ بمضي الوقت ـ تأثيره في إعادة تشكيل “جيولوجيا” الهوية الإبداعية وتضاريسها، لمن كانت له مثل هذه التجارب المعرفية المتراكمة .
لذا فإن “أنور” يكاد يكون حالةً “نادرةً” في “فاترينات” ما يعرض علينا من نصوص تستحق التناول وتقديمها إلى الرأي العام، الذي هجر “الشعر” إلى غير رجعةٍ بسبب “طلاسم” و”تعويذات” جيل السبعينيات المتعال بأنفه عن “الجماهيرية” التي حققتْ الخلود لكبار الشعراء الذين تمسكوا بـ”العمودي” و”التفعيلة” أمام هوجة “التتار النثري” العبثي بقيادة “هولاكو” الدمشقي: على أحمد سعيد “أدونيس”.
ولعلي لا أكون مُبَالِغًا، إذا قلتُ إن “أنور” هو الامتداد الطبيعي وحامل “جينات” جيل المجددين الكبار مثل درويش ونزار وأمل دنقل وعبد الصبور ومطر.. إذ أهدته إطلالاته على ثقافات متعددة، أدوات ومهارات أصطياد المفردات السهلة والتي تُلفت الانتباه وتحمل العيونَ حملاً على تعقبها وهي تمشي بدلالٍ وشياكةٍ بـ”الكعب العالي” على أبيات القصيدة وكأنها تتسلق دَرَجَ سُلم في “فيلا” بالمنتجعات الراقية.
ومن دُررِ الشعر العربي، قصيدته ” آخر أخبار ليلى العامرية” والتي كتبها على بحر “الكامل التام” وتفعيلاته:
مُتَفاعِلُن مُتَفاعِلُن مُتَفاعِلُن مُتَفاعِلُن مُتَفاعِلُن مُتَفاعِلُن
وهو بحرٌ أحاديُّ التفعيلة، يميل إلى استخدامه شعراءُ العمودي وشعراءُ التفعيلة بشكلٍ يكادُ يجعله الأكثرَ استعمالاً في الشعر العربي.
اللافت أن “أنور” نشر القصيدة ـ وهي عمودية ـ على طريقة شُعراء التفعيلة!.. وأنا كدتُ ـ على استعجال ـ أصنفها كذلك، وربما تقع على هذا النحو في ظن العروضيين والشعراء.. ويكاد يكون “أنور” من الأقلية التي تعيد ـ بمهارة ـ ترتيب الأبيات على شكل “ملتبس” ـ من قبيل تنشيط التأملات الكسولة والمتثائبة ـ تضع القارئ في حيرة التساؤل بشأن ما إذا كانت عموديةً أم تفعيلة.!!
البراعة ـ هنا ـ في القافية، التي اختيرت بعناية، لتحمل إلينا بإيقاع الصوت “القلقة”، مشاعر القلق والاضطراب والتوتر.. تطابق الوظيفة الفنية للموسيقى التصويرية في الأفلام والدراما التليفزيونية .. بالإضافة إلى أنه إذا كان من الضروري ـ عروضيا ـ تسكين آخر الشطر “الأول” من جهة والقافية من جهة ثانية (ليستقيم البيت الواحد عروضيًا).. وهي من بديهيات علم العروض.. فإن كبار الشعراء يوظفون “السكون” بشكل مهاري ـ ما أطلق عليه أنا السكون “الدلالي” ـ في رسم صورة نفسية تعيد تلوين مشاعر وأحاسيس المتلقي: سكوت وسكون وصمت مَنْ ينتظر ـ بحذر وترقب ـ الخطوة التالية” وهي المهارة التي كان يجيدها نزار قباني وأمل دنقل بشكل يحملنا حملا على أن لا نغادر النص إلى أن يُسدلَ آخرُ أبياتِ القصيدة جفونَه وتَستلقي ـ أي القصيدة ـ بداخلنا حزينة أو مبهجة. ولقد فعلها ياسر أنور، بشكل مفارق تماما عن “جنحرة” شعر الصوبات السمج والمتكلف والمصاب بـ”الزغطة” والسائد الآن حاليا.
يقول ياسر أنور في رائعته: “آخر أخبار “ليلى” العامرية”
عادت قوافلهم ، و” ليلى” لم تعد
والهودج المشبوب
يسكنه الأرق ْ
حدقتُ في مقل النساء
فلم أجد خلف النقاب ملامحي بين الحدق ْ
وسألت عن “ليلى” , ..
أجاب دليلهم :
كانت هنا حتى بدايات النفق
من يومها الإسفلت ضج بخطوتي
حتى أكاد بكل درب أنزلق
قالت تقارير المباحث :
لم تمت ليلى
اطمئن
…. وعندها زاد القلق
” تليفونها ” المحمول بالصوت المبرمج
مزعج جدا ,
يردد منغلق
علقت صورتها على الجدران
في كل المدارس والنوادي و الطرق
وعلى “عواميد “الشوارع ..
في محطات القطار
وسائل النقل النزق
تلك الصناديق المكدسة التي في شارع التحرير
كانت تلتصق
ولخمس ساعات تطن
لخمس ساعات
أحس بأن شيئا يختنق
إذن المهم بحثت عن “ليلى”
” أقبـّل ذا الجدار وذا الجدار” كمن سبق
ووضعت في حصالتي كل الإشاعات التي
حينا فحينا تنطلق
شخص يقول بأنها كانت ويقسم :
تخدم الغرباء في بعض الشقق
ويضيف آخر قد رأى ليلى هناك
بسلم “المترو”
بأكياس المناديل الورق
ليلى على ” الكورنيش ” يوميا يدا بيد
وشيء فوق مقعدها شُنق
ليلى تدخن في المقاهي
والنراجيل استباحت ريقها لما شهق
ليلى ارتدت زي الحداثة في مدرجها
وشيء من أنوثتها سرق
ليلى الفضائيات أغرتها فمزقت الستار
وأشعلت هذا الشبق
لكنني لم ألتفت لإشاعة
يا ويحها لو أن قائلها صدق
ليلى التي كان الصباح تخومها
وتنام جرتها بنحنحة الغسق
الكلمة العذراء في فمها بخيمتها
ملثمة وتخجل إن نطق
البئر كانت , والرعاء وزحمة
ليلى على جنب مطأطئة العنق
جنية الماء التي لو أفصحت عن نفسها
قفز الجميع إلى الغرق
“أقسمت يا ربي , ويا رب الفلق
أقسمت يا ليلى بمن حقا خلق
أنت الحقيقة والشريعة والنسق
أنت الكلام إذا” تلخبط ” واتسق”
إن كان فعلا ما يقال فكل شعر
قلته بين الضلوع قد احترق
إن كان فعلا ما يقال , فقد برئت
من الجنون وعن خيالك أفترق
لكن ليلى
لن تخون قلادتي
ليلى التي
عهدي بها يوما وثق
ما زلت أنتظر القوافل في المدى
فلعل هودجها
يجيء مع الشفق
انتهى
* من كتابي الجديد