أثر التعاقب القيادي في التميز المؤسسي

بقلم المستشار الدكتورة / آمنة الريسي – سلطنة عُمان
خبير دولي في علم النفس السياسي
غالبا ما يواجه العملاء تجارب دون المستوى من الشركات، مما يؤدي إلى شعورهم بخيبة الأمل والإحباط، ويقلل من احتمالية عودتهم لتجربة الخدمة مرة أخرى. في الماضي، كانت شكاوى العملاء مقتصرة على نطاق محدود من الأصدقاء وأفراد الأسرة، حيث أظهرت الدراسات أن هذه الشكاوى تصل إلى حوالي 20 شخصاً فقط (, 1994مسحACSI).
-أما في العصر الرقمي، فقد تطورت هذه الشكوى لتصبح علنية ومنتشرة على منصات التواصل الاجتماعي مثل فيسبوك، توتير، أو المدونات الشخصية، مما يضاعف الضرر الذي يمكن أن يلحق بسمعة الشركات وبالنتائج التي تسعى لتحقيقها.
-التغيير الذي طرى في طريقة تعبير العملاء عن خبراتهم يلزم الشركات الحالية لخوض معركة التنافس في سبيل تقديم خدمات متميزة لعملائها تعزز ولاء العملاء وتحافظ على صورتها الذهنية أمامهم وبالتالي تضمن بقائها في السوق وفقا أعلى المعايير (Urquhart, 2019).
يُعد التميز المؤسسي من المفاهيم الأساسية في عصرنا الحالي التي تمكن المؤسسات من كسب رضى عملائها والتقليل من الشكوى والتذمر الصادر منهم، وفي الوقت ذاته تحقق مستويات استثنائية من الأداء، هذا المفهوم يجمع بين الابتكار والكفاءة الإدارية لضمان تقديم خدمات ومنتجات تتجاوز توقعات العملاء، مما يعزز رضاهم وولاءهم. في سلطنة عُمان يظهر الاهتمام الواضح بالتميز المؤسسي من خلال مبادرات وطنية متعددة، مثل إصدار وحدة متابعة تنفيذ رؤية عُمان ٢٠٤٠ أدلة استرشادية تهدف إلى ترسيخ ثقافة الجودة والابتكار المؤسسي (جريدة الرؤية، ٢٠٢٤)، وكذلك الجوائز التي تُمنح للشركات المتميزة، مثل جائزة التميز المؤسسي التي مُنحت للشركة الوطنية للتمويل عام ٢٠٢٣ وذلك ضمن حفل توزيع جوائز مجلة Oman Economic Review، كل هذه المبادرات تعكس توجه السلطنة نحو دعم هذا النهج الاستراتيجي في التميز المؤسسي (جريدة الرؤية، ٢٠٢٤).
على الرغم من ذلك، فإن البيئة الاقتصادية العالمية أصبحت تتسم بالتسارع والتعقيد وهي مفاجأة في أحيانا كثيرا ولا يمكن التنبئي بمستقبلها، مما يفرض تحديات كبيرة على المؤسسات التي تعمل على تحقيق تميز مؤسسي في خدماتها، هذه التغيرات المستمرة تدفع بالمؤسسات إلى تبني أساليب جديدة للقيادة لضمان تميزها واستدامتها في آن واحد. في هذا السياق، يبرز التعاقب القيادي بحسب رأي الكاتبة كأداة استراتيجية لدعم المؤسسات في بناء قادة مؤهلين لضمان استمرارية الأداء المتميز.
يُعرف التعاقب القيادي بأنه عملية منظمة لاختيار وتطوير قيادات الصف الثاني لتعويض أي فجوات تنشأ نتيجة مغادرة القادة الحاليين، مما يسهم في الحفاظ على رأس المال المعرفي وضمان استدامة المؤسسة (Keller, 2018).
تُظهر الدراسات السابقة أن التميز المؤسسي يعزز الإبداع الإداري والتفوق التنظيمي، حيث تحقق الشركات التي تتبنى هذا النهج مستويات أداء تتفوق على منافسيها. ومع ذلك، يظل هناك تساؤل حول كيفية سد الفجوة بين الأجيال الحالية والقادمة في بيئة العمل لضمان استمرارية التميز المؤسسي. تشير الأبحاث إلى أن التعاون بين الأجيال يتطلب تجاوز الأنماط التقليدية للعلاقات الهرمية، مع تبني سلوكيات جديدة تعزز العمل المشترك والاستفادة المتبادلة بين الأجيال (Korine and Hilb, 2024).
-منذ ثمانينيات القرن العشرين، كان هناك فضول كبير لمعرفة كيفية تأثير القادة على أتابعهم ومعرفة معايير اختيارهم. وفي تسعينيات القرن العشرين، ظهرت نظريات الذكاء العاطفي والاجتماعي وتحليل الجانب الشخصي للقادة، حيث بدأت دراسات القيادة في هذه الحقبة الزمنية بالتركيز على شخصية القائد وفهم دور اتصال القائد بالجوانب الإنسانية الأساسية في الآخرين لتحقيق النجاح. وفي العقد الماضي، أتجه تركيز الدراسات الى مفهوم الاستدامة لمواردنا الشخصية والاجتماعية والطبيعية وبالتالي تحول تركيز علماء القيادة على هذا النحو (Friedman, 2017).
كانت القيادة ولا تزال تدور حول حشد الموارد لتحقيق أهداف ذات قيمة، ولكن الكثير من الأمور المتعلقة بها قد تغير. فمن ناحية، لم يعد يُنظَر إلى القيادة باعتبارها مجرد أشخاص في قمة الهرم؛ بل يُنظَر إليها على نطاق واسع باعتبارها سمة يمكن لأي شخص، على أي مستوى، أن يطورها. ومن المفهوم الآن على نطاق واسع أن المنظمات لكي تنجح لابد أن تستثمر بشكل منهجي في تنمية القادة المستقبليين وإيجاد خلفاء اكفاء قادرين على ضمان استمرارية نجاح هذه المنظمات (Friedman, 2017). إن الخلافة عبارة عن مجموعة من الأحداث والعمليات التي تحدث بمرور الوقت. وغالبًا ما ينشغل الموظفون وأصحاب المصلحة بالخلافة، ويظهر ذلك من خلال كيف يتشاركون معلومات غير كاملة غالبًا، والقيل، والقال، والتكهنات. بطريقة ما، يتردد صداها مع أي شخص لديه مصلحة في المنظمة؛ الموظفين، المساهمين، المجتمعات المحلية. بالإضافة إلى الفضول الطبيعي، فإن الاهتمام الإضافي الذي تحظى به الخلافة يرجع إلى عامل رئيسي واحد إلا وهو الثقة (Osnes and Wilhelmsen, 2020). وعلى هذا النحو، تثير أحداث الخلافة الفضول والمشاركة من قبل الموظفين وأصحاب المصلحة في تبادل المعلومات غير الرسمي و/أو التكهنات. مثل هذه الشائعات وتبادل المعلومات والتكهنات هي طرق لمحاولة فك شفرة ما إذا كان يمكن الوثوق في العملية والقائد الجديد (Osnes and Wilhelmsen, 2020).
-إن نضج الثقة وتقدير القدرات واحترام الأدوار هي عوامل تمكينية حاسمة لنجاح التعاقب القيادي بين الجيل الحالي والجيل القادم للتطور المشترك كأقران وليس كمنافسين أو أعداء. فالتعاقب القيادي يسمح للجيلان بتعلم الثقة في حكم كل منهما، وتقدير كل منهما الآخر، واحترام الأدوار المميزة لكل منهما في إدارة المؤسسة (Korine and Hilb, 2024).
-في العلاقة الهرمية بين الأجيال، من المرجح أن يعتاد الأجيال على عدم الثقة في حكم بعضهم البعض، وعدم تقدير قدراتهم المختلفة بشكل كامل والفشل في احترام الأدوار المميزة التي يتعين عليهم القيام بها معًا في ضمان الحاضر وإعداد مستقبل العمل، ولكن في العلاقة التعاقبية القائمة على المشاركة بين الأقران، يميل كلاهما إلى أن يكون صحيحًا وبالتالي توليد المزيد من الثقة والتقدير والاحترام (Korine and Hilb, 2024).
ظهر التعَاقُب القيادي في بادئ الأمر في المؤسسات العائلية في مطلع القرن الحادي والعشرين لحل مشكلة ميراث الملكية عند وفاة ملاك هذه المؤسسات، ثم أنتقل للمنظمات الخاصة التي تعاني من تغير قياداتها بشكل دائم، حتى أصبح اليوم اتجاهاً إدارياً لتطوير القيادات وأعدادهم للمستقبل (السفياني، ٢٠٢٤). المرة الأولى التي حدث فيها التعَاقُب القيادي في القيادة كان خلافة المؤسسين الأصليين للمنظمة؛ ثم تلتها الخلافات اللاحقة في القيادات الأساسية للمنظمة والتي أطلق عليها لأحقا “بخلافة القيادة” أو “بخلافة المنظمة”. قد أدرك جاك ويلش، الرئيس التنفيذي لشركة جنرال إلكتريك العملاقة، الطبيعة الحاسمة لخلافة القيادة في عالم الأعمال، والذي علق قبل تسع سنوات من تقاعده المتوقع، “من الآن فصاعدًا [اختيار خليفتي] هو القرار الأكثر أهمية الذي سأتخذه (Bunton, 2023).
ومن جهة أخرى، وبحسب رأي الكاتبة فإن التعاقب القيادي يجعل أولاً الجيل الحالي من قادة الشركات يتمتعون بصحة نفسية جيدة ويقودون الشركة لفترة أطول كثيراً من أسلافهم، فالنجاح المهني يؤثر على طريقة تفكير الشخص وعلى شعوره وعلى انفعالاته، ويلعب دور أساسي في تعامله وتواصله مع الأخرين وفي اتخاذ خيارات وقرارات صحيحة، ويعزز من الارتباط بالعالم الاجتماعي والاقتصادي ويعزز الرفاهية ويمنح الرضا والانجاز الفردي. إن أغلب الذين فقدو وظائفهم عانو من مشاكل نفسية كثيرة على رأسها الاكتئاب والقلق (Shiraev and Levy, 2016). وثانياً، التعاقب القيادي يعترف بأن الجيل القادم القادم يتمتع بإمكانات غير عادية للمساهمة بشكل فوري في أنجاح الشركات. تُظهِر نظرية التعَاقُب القيادي بأن الجيل الحالي والجيل القادم يمكنهما تطوير الشركة جنباً إلى جنب، التطور المشترك كأقران لفترة زمنية كبيرة (Korine and Hilb, 2024).
ووفقا لما تم توضيحه أعلاه حول تاريخ تطور مفهوم التعاقب القيادي وبيان أهميته في عالمنا المعاصر لضمان نجاح المنظمات، لو أننا افترضنا أن المؤسسات الصغيرة والمتوسطة في سلطنة عُمان طبقت مفهوم التعاقب القيادي وقامت بإعداد برامج جادة لتجهز قيادات الصف الثاني للوظائف القيادية المستقبلية، هل سيكون هذا الاستثمار في القيادات المستقبلية في محله؟ برأي الكاتبة المؤسسات القادرة على تطبيق مفهوم التعاقب القيادي وتحقيق الاستدامة والاستمرارية من خلاله هي المؤسسات التي تعمل وفق تميز في التوجيه، التنفيذ والأداء معاً. ومن هنا، وجب على هذه المؤسسات العمل وفق معايير التميز المؤسسي بالبداية، لتحديد الاتجاه الواضح لها وتحقيق الأهداف المرجوة من خلال عمليات تطوير الأعمال والأفراد الرئيسية وقياس الأداء المنتظم، ومن ثم تسعى لتطبيق مفهوم التعاقب القيادي.
تعتقد الكثير من المؤسسات أن خدمة العملاء التي يدربون عليها موظفيهم هو ما يقصد به بالتميز المؤسسي. ولكن هناك اختلاف كبير بينهم، في الواقع إن خدمة العملاء تعتبر جانب حيوي في التميز وهو الجانب الأكثر وضوحاً من التميز في الخدمة، ولكن في المقابل فإن مستوى التميز المؤسسي يقصد به خلق ثقافة إسعاد العملاء وليس مجرد إرضائهم (Urquhart, 2019). لا تكتسب المؤسسات شرف التميز إلا من خلال التعامل بشغف مع عملائها. في عام ١٩٩٠ قام كل من جاريث مورجان وديفيد ميرسو بتقديم ثمان سمات تميز المنظمات وهي كالتالي: التحيز في العمل، القرب من العميل، الاستقلالية وريادة الأعمال، الإنتاجية من خلال الناس، التوجه نحو القيمة، اتساق الاستراتيجية، الشكل البسيط، والموظفون النحيفون (Urquhart, 2019). التميز المؤسسي ينقسم إلى فرعين. الأول يتناول المبادئ الأساسية للتميز في الخدمة، والثاني يتكلم عن الآليات والأدوات والتقنيات التي تساعد في ترسيخ التميز كأساس للقيمة التي تقدمها المنظمة (Urquhart, 2019).
-على سبيل المثال، كانت مبادئ الجودة والتميز المؤسسي لجائرة الملك عبد العزيز للجودة التي تم أطلاقها في عام ٢٠٢٢ هي كالتالي: الإدارة بالعمليات، التركيز على المستفيدين، الاهتمام بالموارد البشرية، القيادة بالإلهام والقدوة الحسنة، تحقيق نتائج متفوقة ومستدامة، المساهمة في التنمية المستدامة، تعزيز الإبداع وتسخير الابتكار، التعلم والتحسين المستمر، وتطوير الشراكات الناجحة (جائزة الملك عبد العزيز للجودة، ٢٠٢٢). أما بالنسبة لجمعية شفاء لرعاية المصابين بالأمراض المزمنة، فمبادئ التميز المؤسسي هي: تحقيق نتائج متوازنة، صناعة القيمة المضافة للزبون، القيادة برؤية وإلهام ونزاهة، الإدارة بالعمليات، النجاح من خلال العاملين، دعم الإبداع والتجديد، تطوير الشراكات، وتحمل المسؤولية من أجل مستقبل مستدام (جمعية شفاء، ٢٠٢٤).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى