هل تقترب “إسرائيل” من هزيمة استراتيجية في غزة؟

في تحول لافت داخل النخبة العسكرية للاحتلال الإسرائيلي؛ أطلق رئيس الاستخبارات العسكرية الأسبق عاموس يدلين، سلسلة تصريحات صادمة للداخل الإسرائيلي، حذّر فيها من أن “تل أبيب” تقترب من “هزيمة استراتيجية عميقة” في حربها المستمرة على غزة، مشيراً إلى غياب الأهداف السياسية، واستمرار الاستنزاف، وتدهور شرعية الدولة داخلياً وخارجياً.
وفتحت التصريحات التي نقلتها القناة 12 العبرية، الباب لتحليلات أوسع حول المأزق العسكري والسياسي الذي تواجهه “تل أبيب” بسبب الحرب المتواصلة على قطاع غزة..
فشل مشروع “النصر الكامل”
منذ اليوم الأول للحرب؛ رفعت حكومة الاحتلال شعار “تدمير حماس وتحقيق نصر حاسم”، إلا أن عاموس يدلين يرى أن هذا الهدف لم يكن منطقياً من الأساس.
ويؤكد يدلين أن “اقتراح تحقيق النصر المطلق لم يكن واقعياً”، لأن حماس ليست جيشاً نظامياً يمكن هزيمته عبر معركة تقليدية، بل حركة ذات بنية لامركزية وقدرة على امتصاص الضربات.
ورغم الضربات العسكرية القاسية التي تلقتها غزة؛ لا تزال حماس حاضرة ميدانياً وسياسياً، وقادرة على شن عمليات هجومية والدفاع عن مواقعها. ويكشف هذا الحضور المستمر، رغم مرور أكثر من 9 أشهر على بدء الحرب، حدود القوة العسكرية في تحقيق أهداف سياسية كبرى.
كلام يدلين هنا ليس مجرد رأي، بل نقد حاد لرؤية نتنياهو وقيادات الحكومة، الذين تعاملوا مع الحرب وكأنها مشروع تطهير شامل يمكن إنجازه في أسابيع. واليوم، ومع استمرار العمليات دون نتائج واضحة، بات هذا المشروع محل تساؤل حتى من داخل المؤسسة الأمنية.
فقدان البوصلة السياسية
أحد أخطر ما ورد في تصريحات يدلين هو اعترافه بأن “إسرائيل غارقة في غزة دون أهداف سياسية واضحة”، وهو ما يعكس حالة التيه التي تعاني منها قيادة الاحتلال الإسرائيلي. فبعد الشلل الذي أصاب مفاوضات ما بعد الحرب، وتعثر محاولات فرض ترتيبات إقليمية جديدة، لم يعد واضحاً ما الذي تريده “إسرائيل” من استمرار العمليات.
وأصبحت الأهداف المعلنة – كالقضاء على حماس أو إعادة السيطرة الكاملة على غزة – إما مستحيلة أو عالية الكلفة. وحتى فكرة تسليم القطاع لجهات فلسطينية “معتدلة” بعد الحرب، باءت بالفشل في ظل الرفض الفلسطيني الواسع لأي مشروع يعقب الاحتلال.
وخلق غياب الهدف السياسي فراغاً قاتلاً بالنسبة للكيان: فالميدان يشتعل، والجنود يسقطون، والضغوط الدولية تتصاعد، دون أن تملك قيادة الاحتلال خطة لما بعد الغارات والدبابات. وهذا بالضبط ما يعنيه يدلين حين يتحدث عن “غرق في غزة بلا رؤية”.
الشرعية تتآكل.. والعزلة تتعمق
اعترف يدلين بأن “الشرعية الإسرائيلية في أدنى مستوياتها”، في تصريح يحمل دلالات داخلية وخارجية. فداخلياً؛ لم تعد الرواية الرسمية مقنعة لقطاعات واسعة من المجتمع الإسرائيلي، خصوصاً عائلات الجنود والمخطوفين الذين يرون في استمرار الحرب تعنتاً يكلف الأرواح دون مقابل.
وخارجياً؛ تواجه “إسرائيل” موجة غير مسبوقة من الانتقادات، وصلت إلى حد اتهامها بارتكاب جرائم حرب في المحافل الدولية. كما أن علاقتها مع واشنطن (الحليف الأكبر) تمر بتوترات مستمرة على خلفية استمرار الحرب واستهداف المدنيين.
ويدرك يدلين، المعروف بعلاقاته الوثيقة مع الأوساط العسكرية والسياسية الغربية، أن إسرائيل تدفع ثمناً باهظاً لعزلتها المتزايدة. وهو ما يفسر نبرته التحذيرية، خاصة حين يربط بين استمرار الحرب وانهيار صورة إسرائيل كـ”دولة ديمقراطية” تحترم القانون الدولي.
الأسرى.. عقدة الحل وفكفكة العقد
ومن أكثر القضايا حساسية في الرأي العام الإسرائيلي هي قضية الأسرى والمخطوفين. وقد أشار يدلين صراحة إلى أن “المخطوفين لم يعودوا من قطاع غزة”، ما يضعف موقف الحكومة ويفاقم الغضب الشعبي.
ورأى يدلين أن السبيل الوحيد لتقليل الخسائر واستعادة الحد الأدنى من الثقة هو التوصل إلى صفقة شاملة تُعيد جميع الأسرى دفعة واحدة. أي تأجيل أو تلاعب في هذا الملف قد يفاقم التصدعات داخل المجتمع الإسرائيلي ويطيح بما تبقى من الثقة بالقيادة.
لكن أي صفقة من هذا النوع تعني بالضرورة تقديم تنازلات سياسية، وهو ما ترفضه حكومة نتنياهو حتى الآن. لذلك؛ تبدو تصريحات يدلين بمثابة دعوة علنية لكسر الجمود، وتغليب الواقعية السياسية على الشعارات الفارغة.
تفكيك لخطاب الانتصار
تصريحات عاموس يدلين ليست مجرد انتقادات عابرة، بل تمثل شهادة من قلب المؤسسة الأمنية الإسرائيلية على فشل الرؤية السياسية والعسكرية للحرب على غزة. فهو لا يتحدث كناشط معارض، بل كخبير مخضرم في دوائر صنع القرار، يعرف حجم الخسائر، ويقيسها بمعايير الأمن القومي لا الشعبوية.
والرسالة التي يبعث بها واضحة: “إسرائيل” في مأزق استراتيجي، والخروج منه لا يكون عبر مزيد من التصعيد، بل عبر مراجعة جذرية للسياسات، والاعتراف بأن الحرب فقدت معناها وجدواها.
وفي حال تجاهلت القيادة هذه التحذيرات، فإن ما ينتظر إسرائيل لن يكون “نصراً مؤجلاً”، بل كارثة سياسية وأمنية، تطال الداخل والخارج معا.