طه كلينتش
عندما انعقد المؤتمر الصهيوني الثالث في مدينة بازل السويسرية بين 15 و19 أغسطس 1899، كانت إحدى أبرز القضايا المطروحة على جدول الأعمال هي كيفية تقديم الصهيونية إلى الرأي العام العالمي. وقد اقترح ثيودور هرتزل، زعيم الصهيونية السياسية ومؤسس فكرة المؤتمرات الصهيونية، مصطلح “Propaganda” (الدعاية) كوسيلة لتحقيق هذا الهدف. وفي ذلك الوقت، لم يكن للمصطلح أي دلالات سلبية، ولهذا حثّ هرتزل الحاضرين قائلاً: “مارسوا الدعاية وعرفوا أنفسكم للجمهور”.
وفي وقت لاحق، قدّم ناحوم سوكولوف، أحد أقرب المقربين من هرتزل، مصطلحًا عبريًا مرادفًا لكلمة “الدعاية”، وهو مصطلح “Hasbara” (هاسبارا)، والذي يعني في العبرية “التوضيح” أو “الشرح”. ومع مرور الوقت أصبح هذا المصطلح تعبيرا مختصرا عن شبكة لوبي متعددة الأبعاد استخدمها الصهاينة أولا، ولاحقًا إسرائيل، للتواصل مع الرأي العام العالمي.
ومع بدء احتلال الأراضي الفلسطينية تدريجيًا في مطلع القرن العشرين، انخرطت النخب الصهيونية في حملة “هاسبارا” مكثفة في جميع أنحاء العالم. وتمحورت جهودهم في البداية حول المجالين الأساسيين اللذين يُشكلان الرأي العام: الإعلام والأوساط الأكاديمية. وقد تم تخصيص ميزانيات ضخمة لهذه الحملة؛ فتم شراء ولاءات الشخصيات المؤثرة في هذه المجالات، وإغراق الكتاب والمفكرين بالجوائز، وتمويل المشاريع، وتقديم الدعم عبر الرعاية، بل وحتى اللجوء إلى الابتزاز وأساليب غير أخلاقية. وبذلك تمكنوا من بناء شبكة إعلامية وأكاديمية تُقدم رواية الاحتلال الصهيوني للأراضي الفلسطينية بمنظور صهيوني خالص.
ولاحقًا، توسعت هذه الاستثمارات الضخمة التي تم توجيهها إلى وسائل الإعلام والأوساط الأكاديمية لتشمل قطاعات السينما والموسيقى والترفيه. وجرى التركيز على إنتاج أعمال فنية تُبرز “المظلومية اليهودية”، مع تسليط الضوء على الأفلام ذات الطابع المتعلق بالمحرقة اليهودية (الهولوكوست)، التي انهالت عليها الجوائز العالمية. وأصبح التلميح بدعم الصهيونية أو إسرائيل شرطًا شبه أساسي للحصول على جوائز مرموقة مثل الأوسكار.
لا يعرف جهاز “الهاسبارا” أي حدود لتحقيق أهدافه، ولا يتردد في استخدام شتى الأساليب لتحقيق غاياته. وفي إطار أنشطته الدعائية في مجال الضغط والتأثير، أولى الجهاز اهتمامًا خاصًا بالعالم الإسلامي، فقد قدم منحًا سخية لعدد مختار من العلماء والباحثين، وموَّل مشاريع لما يُسمى “منظمات المجتمع المدني”. كما شملت أنشطته مختلف الشرائح من صحفيين ودبلوماسيين إلى شاغلي المناصب الحساسة في المؤسسات العامة وحتى مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي. ولو قمتم بفحص الدول الإسلامية واحدة تلو الأخرى، لوجدتم العديد النقاط المحورية والشخصيات المهمة التي تأثرت أو تم تشكيلها مباشرة من قبل جهاز “الهاسبارا”.
ولكن يجب ألا نقع في فخ تصور الهاسبارا كآلة مثالية قادرة على تحقيق كل أهدافها على أتم وجه وبلا عيوب. صحيح أن هذا الجهد يستند إلى ميزانيات ضخمة تبلغ مليارات الدولارات، إلا أن “السد الدفاعي” الذي بنته الهاسبارا على مر السنين بدأ يتصدع بشكل ملحوظ في السنوات الأخيرة. فقد بدأ الناس في التعبير عن غضبهم واستيائهم من تقارير وسائل الإعلام التي تمولها الصهيونية والتي تصور الصراع الفلسطيني الإسرائيلي على أنه “صراع متبادل بين طرفين متساويين”، ولم يعد أحد يقبل أن تُستخدم عبارة “حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها” كذريعة لتبرير جرائم الإبادة الجماعية والمجازر. أو يصدق ادعاءات إسرائيل بأن المدنيين الذين يقتلون في قصف المنازل هم “دروع بشرية” يستخدمها الإرهابيون.
إذا نظرنا إلى الاعتداءات الإسرائيلية المتواصلة على غزة من زاوية “خسائر المسلمين” أو “عدد الشهداء” فحسب، فسوف نفتقد الجزء الأهم من الصورة. إن الخسائر التي تكبدتها إسرائيل في هذه العملية نسبياً، أكبر بكثير من خسائر الفلسطينيين. فالصورة الإيجابية التي بناها الصهاينة على مدار قرن تقريباً باستثمارات ضخمة قد انهارت في غضون أشهر قليلة. لقد أفلست حملة الهاسبارا. ووصلت معاداة السامية، بسبب أفعالهم هم، إلى أعلى مستوياتها في تاريخ البشرية. لم يعد كون المرء إسرائيلياً أو صهيونياً أمراً يمكن التفاخر به، بل أصبح يشكل خطرًا وتهديدًا في العديد من أنحاء العالم