عمقت التوترات في منطقة الشرق الأوسط، حيث التصعيد المتواصل بين حماس وإسرائيل منذ السابع من شهر أكتوبر الجاري، حالة عدم اليقين المسيطرة على الأسواق، والممتدة منذ ارتدادات وباء كورونا ثم الحرب في أوكرانيا في الرابع والعشرين من شهر فبراير 2022.
تتفاعل أسواق النفط بشكل مباشر مع تلك التطورات الجيوسياسية، وسط سيناريوهات قاتمة تفرض نفسها على المشهد عموماً، حال توسع دائرة التوتر وامتداد الصراع بشكل يهدد الأمن والاستقرار في المنطقة والعالم.
في مقاربة للسيناريوهات المحتملة، من خلال قياس المخاطر طبقاً لما تُظهره مسارات تاريخية لأزمات مختلفة (صراعات إقليمية من السبعينيات)، وضع البنك الدولي ثلاثة تقديرات رئيسية لأسعار النفط
- السيناريو الأول (قياساً بما حدث خلال الحرب في ليبيا في 2011): تراجع الإنتاج بنحو 500 ألف إلى 2 مليون برميل يوميا، بما يدفع الأسعار لمستويات بين 93 إلى 102 دولاراً للبرميل في الربع الرابع.
- السيناريو الثاني (قياساً بما حدث إبان حرب العراق 2003): خفض إمدادات النفط العالمية بمقدار من 3 إلى 5 ملايين برميل يومياً، ووصول سعر البرميل بين 109 و121 دولاراً.
- السيناريو الثالث (قياساً بتأثير الحظر النفطي العربي في 1973 إبان حرب أكتوبر): تقليص إمدادات النفط العالمية بمقدار 6 ملايين إلى 8 ملايين برميل يومياً. وهذا من شأنه رفع الأسعار إلى 140 و 157 دولاراً للبرميل، أي قفزة تصل إلى 75 بالمئة.
كلفة الصراع
من لندن، يقول الخبير في اقتصادات الطاقة، الدكتور نهاد إسماعيل، في تصريحات خاصة لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية” إن أسعار خام برنت في حدود الـ 88 دولاراً للبرميل، وخام غرب تكساس الوسيط في حدود أوائل الثمانينات، وهذه الحدود السعرية “سوف تبقى لفترة” إلا في حالة اتساع نطاق الحرب.
ويضيف: “الحرب تتركز الآن في منطقة ضيقة وهي قطاع غزة، وإذا اتسعت وشملت جنوب لبنان وتدخلت إيران، فهنا سيكون الخطر الكبير، لجهة أنه قد ترتفع الأسعار إلى 120 دولاراً للبرميل، وربما إلى أزيد من 140 دولاراً إذا تم إغلاق مضيق هرمز؛ لأن نحو 20 مليون برميل يومياً تمر من المضيق”.
ويتابع: “لذلك الخطر الكبير هو مشاركة إيران في هذه الحرب، وكذلك تعطيلها للملاحة البحرية في مضيق هرمز، خاصة تعطيل الناقلات التي تشحن النفط.. في هذه الحالة قد تصل الأسعار لمستويات أعلى من 150 دولاراً للبرميل، كما سترتفع تكاليف الشحن، وكذلك التأمين، لأن عنصر المخاطرة (علاوة الحرب) في هذه الحالة سترتفع الأسعار لمستويات قد تصل 150 أو أكتر وربما أيضا سترتفع تكاليف الشحن وكذلك التأمين لأن عنصر المخاطرة الـ war premium سيرتفع، وربما يكون مسؤول عن من 10 إلى 15 دولاراً إضافية لكل برميل في هذه الحالة.. بالتالي فإن كل شيء يعتمد على التطورات في ساحة القتال التي تدور في غزة”.
• مضيق هرمز من أهم الممرات المائية في العالم، وهو يمتد على طول حوالي 21 ميلاً بحريا ويعتبر ممرًا حيويًا لنقل النفط، ويقع في منطقة الخليج ويفصل بين إيران من الشمال وسلطنة عمان من الجنوب.
• تكمن أهمية المضيق في الدور الحيوي الذي يلعبه في تصدير النفط، حيث يمر منه حوالي 21.7 مليون برميل يومياً، من دول الخليج وإيران.
• يمر عبر المضيق حوالي خمس استهلاك العالم من النفط يوميا، أي ما يعادل نحو 21.7 مليون برميل يوميا من الخام، بحسب S&P Global .
عوامل رئيسية
من جانبها، تقول خبيرة الطاقة في منطقة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، لوري هايتايان، في تصريحات خاصة لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية” إن عاملين رئيسيين تتحدد بناءً عليهما السيناريوهات المرجحة.
- العامل الأول يرتبط بموقف إيران؛ على اعتبار أن طهران كلما تدخلت في الصراع وطال أمده، كلما كانت هناك عواقب على أسواق النفط بخصوص الكميات المعروضة في الأسواق العالمية من النفط “خاصة وأننا نعرف أن إيران كانت -رغم العقوبات- تُواجه نوعاً من التساهل الأميركي والأوروبي للاستمرار في إمدادات وضخ النفط بالأسواق.
- العامل الثاني يتعلق بموقف الدول العربية -حال اتساع دائرة الصراع- وما إذا كانت هنالك تدابير بعينها سوف يتم اتخاذها، على غرار ما حدث في 1973 على سبيل المثال (وهو ما أشار إليه تقرير البنك الدولي في مقارنة المخاطر، بالسيناريو الثالث المذكور).. فكلما تزايد عدد الضحايا وامتد أو توسع الصراع يمكن أن تضطر دول عربية إلى اللجوء لنوع من أنواع الضغط من خلال أسواق النفط لدفع الولايات المتحدة لإجبار إسرائيل على وقف المعارك، بحسب هايتايان.
توازن السوق
تعتقد خبيرة الطاقة في منطقة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، بأن ترجيح كفة أي من السيناريوهات ليس أمراً سهلاً، لكن بشكل عام “كلما طال أمد الصراع كلما كانت هنالك مخاطر أكثر على الأسواق العالمية إجمالاً، وليس فقط فيما يتعلق بالنفط والغاز”.
وبحسب تقديرات البنك الدولي، فإنه:
- من المتوقع وصول متوسط سعر البرميل إلى 90 دولاراً خلال الربع الرابع من العام الجاري 2023.
- البنك الدولي حذر في الوقت نفسه من أن تصعيد الصراع الأخير في الشرق الأوسط (التوترات بين حماس وإسرائيل) يمكن أن يرفع الأسعار بشكل كبير.
- منذ بداية تلك التوترات في 7 أكتوبر 2023، لم ترتفع أسعار النفط إلى بنسبة 6 بالمئة فقط.
وعلى الرغم من أن الضربات لم تؤثر بشكل مباشر على الإمدادات، فقد تتزايد المخاوف من أن التوترات في منطقة الشرق الأوسط عموما، بما في ذلك تصاعد الأحداث في قطاع غزة، قد تسهم -لا سيما حال توسع دائرة الصراع- في التأثير سلباً على الإمدادات.
تصاعد الأحداث
من جانبها، تقول أستاذة الاقتصاد والطاقة بالقاهرة، الدكتورة وفاء علي، في تصريحات خاصة لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية” إن:
- الأحداث تتصاعد يوماً بعد يوم في منطقة الشرق الأوسط (..) بينما العيون كلها شاخصة على أسواق الطاقة؛ فهي “مربط الفرس”، بحيث تدخل في كل مناحي الحياة.
- العالم أمام معادلة سياسية شديدة التعقيد، وأمام كل السيناريوهات المحتملة بارتفاع أسعار الطاقة في حالة إطالة أمد الحرب أو دخول أطراف أخرى وتوسيع دائرة الصراع في منطقة تتحكم في ثلثي النفط العالمي الذي تنقله بحراً، ولذلك يتابع الجميع بحذر ردة فعل الأسواق.
- حالة عدم اليقين تسيطر على الأسواق التي تعاني أصلا من شح المعروض وعدم التوافقية.
وتلفت إلى أنه “على مستوى تحرك الأسعار، فإن تزايد التوترات الجيوسياسية في الأجل القصير قد يجعل الأسعار في حالة من التذبذب، وهو ما يحدث في الوقت الراهن”، مما جعل المستثمرين يلجأون إلى الملاذات الآمنة، ولكن الثابت فى الأمر أن اتساع دائرة الصراع وطول أمد الحرب سيرفع معه أسعار النفط، وبالتالي تزيد معدلات التضخم، والضغوطات الاقتصادية ستصبح أكثر شراسة ومعها سترتفع كذلك أسعار الغاز الطبيعي والمسال أيضاً في المرحلة المقبلة بصورة أكبر.
وتستطرد: “أصبحت حالة عدم اليقين تسيطر على الأسواق خصوصاً مع تسييس القضايا الاقتصادية، وعسكرة ملف الطاقة، وعليه يصبح التنبؤ بسعر برميل النفط من المهام الشائكة، فلقد تغيرت أساسيات السوق الكلية، لتتحكم فيها عوامل أخرى كالصراعات الجيوساسية (..)”.
وتوضح علي أن “هناك خرائط جديدة تتشكل وتحالفات تتبدل، وقد تدخل إيران كطرف في الصراع وهنا ستكون الأسواق مدفوعة بردات فعل كبيرة تجعل النفط يصعد فوق الـ 100 دولار، بالإضافة إلى المخاوف على الممرات والمضايق المائية وتعرضها لمشكلات جراء الصراع.. ومع الصعود المحتمل لأسعار النفط فوق الـ 100 دولار أو أكثر فقد دخل العالم إلى سرداب وبراثن الركود التضخمي رسمياً”.
ويشار إلى أنه بحسب نائب كبير الاقتصاديين في البنك الدولي، أيهان كوس، فإن “ارتفاع أسعار النفط، إذا استمر، يعني حتما ارتفاع أسعار المواد الغذائية”، مضيفا “إذا حدثت صدمة حادة في أسعار النفط، فإن ذلك من شأنه أن يؤدي إلى ارتفاع تضخم أسعار المواد الغذائية الذي ارتفع بالفعل في العديد من البلدان النامية”.
احتمالات مختلفة
بدوره، يلفت الباحث في العلاقات الدولية والاقتصاد السياسي، مستشار المركز العربي للدراسات، أبوبكر الديب، في تصريحات خاصة لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية” إلى أنه:
- في كل الأحوال تؤدي التوترات الجيوسياسية في الشرق الأوسط إلى ارتفاع أسعار النفط خلال الفترة المقبلة.
- يعيد ذلك سيناريوهات حرب أكتوبر 1973 وحروب العراق في التسعينيات وبداية الألفية الثالثة (وهو ما أبرزه تقرير البنك الدولي الأخير ضمن السيناريوهات المحتملة لتداعيات تلك التطورات على أسواق النفط).
- تستعد أسواق النفط والغاز لأسابيع متقلبة من التداول، خاصة مع بدء إسرائيل التوغل البري بغزة، وهو ما يفتح احتمالات توسع الصراع إقليمياً وعالمياً.
- كل احتمال من الاحتمالات المذكورة له تداعيات في أسواق النفط، وهذه السيناريوهات منها: هل تتدخل أذرع إيران في المنطقة بالحرب أم تتدخل إيران بنفسها أم هناك دول أخرى قد تدخل في الصراع كروسيا والصين وغيرهما؟
- كل ذلك سينعكس على أسعار النفط، بينما أسوأ هذه السيناريوهات تشير إلى أن الأسعار قد تصل لما يقارب الـ 200 دولار للبرميل إذا تعطلت الإمدادات من الشرق الأوسط.
سيناريو مستبعد نسبياً
وإلى ذلك، يعلق الباحث الاقتصادي المتخصص في شؤون النفط والطاقة، عامر الشوبكي، في تصريحات خاصة لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية” على السيناريوهات الثلاثة التي طرحها البنك الدولي، موضحاً أن السيناريوهين الأول والثاني -على المدى المتوسط- مطروحان وبنفس النسبة، إذا ما تطورت الأوضاع في غزة، بينما السيناريو الثالث “ضعيف نوعاً ما”.
ويرى تبعاً لذلك أن التطورات في غزة يُمكن أن تحمل أسعار النفط لتسجيل ارتفاعات ما بين 93 دولاراً للبرميل و121 دولاراً.
ويتحدث عن الاحتمالات المرتبطة بتعطل الإمدادات عبر مضيق هرمز، بالإشارة إلى أن تلك التقديرات تغفل أنه لدى المملكة العربية السعودية أنبوب نفطي يربط شرقها بغربها وتستطيع من خلاله تصدير النفط من منابعه الشرقية عبر البحر الأحمر دون المرور بمضيق هرمز، وبالتالي هذا يعطيها أفضلية في تصدير النفط في حالة توسع الصراع أو إغلاق المضيق.
ويستطرد: “إذا ذهبنا بالاحتمالات إلى ما هو أبعد من ذلك، حيث تتدحرج كرة الثلج وتتطور الأوضاع إلى حرب عالمية، فأعتقد بأن هذا الأمر من شأنه إن حدث أن يرفع أسعار النفط ليس فقط إلى 157 دولاراً للبرميل، بل سيقفز لأكثر من 200 دولار.. وهذا احتمال ضعيف”.
وفي وقت سابق، أبقى غولدمان ساكس، على توقعاته لسعر النفط عند 95 دولاراً للبرميل خلال الربع الأول من العام المقبل 2024.
وبحسب محللي البنك، في مذكرة لهم، فإن الأسعار قد ترتفع بنسبة 20 بالمئة عن المستوى المتوقع، في حال حدث اضطراب في الإمدادات المارة عبر مضيق هرمز، وهو سيناريو ضعيف الاحتمال.