لقمة الحب… قبل لقمة الخبز

شريف نصار

في حي من احياء ضواحي نابل ،تعرفت على جار بالجنب رجل كبير في السن من اصول ريفية قال لي انا اسمي “ عبد الله”، لكن الناس هنا ينادونني ببساطة “الكواش،

قضيت ثلاثين عامًا في هذا الحي، أعجن الخبز، وأراقب الوجوه وهي تكبر وتعود بأطفالها لتشتري منِّي ما كنت أبيع لآبائهم.

كنت أظن أن لا شيء يفاجئني بعد كل تلك السنين… حتى ظهر “حميمة”

 

كان ظهيرة يوم ثلاثاء بارد، والشمس تتسلل بخجل بين رفوف الخبز الدافئ. كنت أراجع النقود في الصندوق حين لمحته.

صبيٌّ صغير لا يتجاوز الثامنة، نحيل كظلّ المساء، بعينين واسعتين فيهما خوف وجوع وحلم صغير.

 

اقترب بخطوات حذرة وقال:

– “سيدي، كم ثمن الكرواصون؟”

– “ ثلاثمياء يا صغيري.”

 

مدّ يده، وعدَّ نقوده مرتين. كان معه ميتين وخمسين فقط.

رفع نظره إليّ وقال بخجل:

– “أليس لديك كرواصون أرخص؟”

 

تظاهرت بالتفكير وقلت:

– “هممم… ربما عندي بعض تبقى لي من الأمس. أستطيع أن أقدمه لك بما عندك من نقود”

 

أضاءت ملامحه كمن عثر على كنز. أعطيته كرواصون طازجًا بدلًا من القديم، فرَكض مبتسمًا، وترك ابتسامته عالقة في ذاكرتي.

 

لكن حميمة عاد في اليوم التالي… ثم في الذي بعده… دائمًا بنفس العملة المبتلة بالعرق، ودائمًا يسأل عن كرواصون الأمس”.

حتى جاء يومٌ لم يأتِ فيه.

 

مرّ الثلاثاء بلا زيارته، ثم الأربعاء، ثم الخميس.

وفي صباح الاثنين، سمعت حِركة خلف المتجر. دخلت الغرفة الخلفية فرأيته — يده غارقة في صندوق الخبز، يأكل بنهمٍ كمن يلتهم الحياة نفسها.

 

صرخت: “هيه! ماذا تفعل؟”

 

ارتبك، حاول الهرب، فسقط وتناثرت حوله الفتات.

رفع عينيه إليّ دامعتين وقال بصوت مرتجف:

– “أرجوك… لا تسلّمني للشرطة! أمي مريضة… ولم نأكل منذ ثلاثة أيام…”

 

تجمّد صوتي في حلقي. اقتربت منه، ومسحت دموعه بطرف مئزري الملطخ بالدقيق.

قلت بهدوء:

– “اهدأ يا بني. ما اسمك؟”

– “مخمد… لكنهم ينادونني حميمة.”

 

ابتسمت له وقلت:

– “حسنًا، يا حميمة عندي مشكلة كبيرة.”

رمقني باستغراب.

– “المخبز هذا كبير عليّ وحدي. أحتاج إلى مساعد. هل تظن نفسك شجاعًا كفاية لتكون هو؟”

 

– “أنا؟”

– “أنت. العمل سهل: تكنس، ترتب الخبز، تساعدني قليلًا. وفي المقابل، تحصل على وجباتك وثمن بسيط. ما رأيك؟”

 

كان جوابه عناقًا مفاجئًا، صادقًا إلى حدٍّ جعلني أكاد أبكي.

 

في المساء، ذهبت معه لأقابل أمه. كانت ترقد على سريرٍ متهالك، تسعل كل بضع كلمات.

قلت لها:

– “سيدتي، أودّ أن يعمل محمد معي في المخبز بعد المدرسة.”

– “لكنه صغير جدًا.”

– “نعم، لكنه شجاع أكثر من كثير من الرجال.”

 

مرت الأيام، وتحوّل خوف حميمة إلى ابتسامة دافئة. صار يضحك مع الزبائن، يعرف مقاساتهم المفضلة من الخبز قبل أن يطلبوها.

 

وفي إحدى الأمسيات، سألني:

– “عم عبد الله… لماذا لم تعاقبني؟”

– “لأن الحياة يا بني قاسية بما يكفي، ولسنا بحاجة إلى مزيد من العقاب. أحيانًا، الفرصة الثانية أهم من الخبز نفسه.”

 

– “لكن السرقة خطأ.”

– “هي كذلك. لكن الجوع أيضًا خطأ ارتكبه العالم بحقك.”

 

ثم أضاف بخجل:

– “هل تظن أنني شخص سيئ؟”

– “كنت طفلًا جائعًا، لا لصًّا. وهناك فرق كبير.”

 

كبر حميمة، وكبر معه المخبز. صار وجهه مألوفًا للزبائن، وصوته يملأ المكان بالبهجة.

وذات يوم، قال لي:

– “عم عبد الله، ماذا تفضل؟ أن يعرف الناس أنني أصبحت جيدًا، أم أن ينسوا أنني سرقت؟”

– “أفضل أن تعرف أنت من تكون. فالناس ينسون الخبز الذي اشتروه، لكنك أنت لا تنسى ما صنعتَه بيديك.”

 

ابتسم، ثم قال ما جعلني أتأمل طويلًا:

– “أحيانًا أخاف أن يتذكروا.”

فأجبته:

– “أنا أيضًا سرقت يا حميمة.”

– “أنت؟!”

– “نعم. سرقت من نفسي ومن عائلتي وقتًا لا يُعوَّض. أنت سرقت لتعيش، وأنا سرقت لأهرب من الشعور. ليتني كنت شجاعًا مثلك.”

 

مرّت السنوات. مرضت أمه، ودفعنا تكاليف علاجها. وبعد تعافيها، سألني:

– “لماذا تساعدنا؟”

– “لأننا عائلة. والعائلة ليست دائمًا دمًا. أحيانًا تكون عجينًا وخبزًا وقطعة من القلب.”

 

بعد عشر سنوات، أصبح حميمة شريكي في المخبز.

وذات صباح، دخلت طفلة صغيرة وسألت بخجل إن كان عندنا خبز رخيص.

نظر إليّ، فهززت رأسي موافقة.

قال لها بابتسامة تشبه ابتسامته الأولى:

– “عندي ما يناسبك تمامًا… من الأمس.”

 

وحين غادرت الفتاة وهي تركض فرحًا، قال لي بهدوء:

– “وإن لم تعد غدًا؟”

أجبته:

– “سنقول إنها مساعدتنا الجديدة.”

 

ضحك وقال:

– “تمامًا كما قلت لي أنت.”

 

عندها أدركت أنني لم أعلّمه كيف يصنع الخبز فقط، بل كيف يصنع الخير أيضًا.

لأن العدالة ليست أن تعاقب، بل أن تفهم.

والرحمة ليست ضعفًا، بل حكمة نادرة.

 

الآن، حين يسألني أحدهم لماذا “كافأت لصًّا”، أجيبه ببساطة:

 

“لأني فضّلت أن أصنع خبازًا من أن أترك لصًّا يضيع.”

 

فيبتسم حميمة من خلفي ويقول مازحًا:

 

“ومن كان ليقاوم الخبز دون عم عبد الله أصلًا؟ كان من المستحيل ألا أسرقه.”

 

وهكذا، نستمر في عجن الخبز… وعجن الفرص الثانية.

 

في النهاية، كل إنسان يحتاج إلى لقمة حب… قبل أن يحتاج إلى لقمة خبز..

منقول للعبرة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى