تدمير أبراج غزة أدى إلى نزوح آلاف الفلسطينيين

في الأيام الأخيرة، كثّف الاحتلال قصفه الأبراج السكنية في مدينة غزة، حيث دمّر برج السوسي المكوّن من 15 طابقاً وأكثر من 60 شقة، بعد أن حاصر الخوف ساكنيه وأجبرهم على إخلائه تحت تهديد القصف. وسبق ذلك استهداف برج مشتهى غربي المدينة الذي كان يؤوي مئات العائلات النازحة.

هذه المشاهد لم تكن استثناءً، بل تأتي في إطار سياسة متواصلة منذ أشهر، تستهدف العمارات المرتفعة باعتبارها مراكز حياة جماعية، ما أدى إلى نزوح آلاف الفلسطينيين وفقدانهم لمساكنهم في وقت لم يبق فيه ملجأ سوى المدارس وبعض مباني الجامعات.

وسعى الاحتلال لتسويغ هدم الأبراج بادعاءات جاهزة تزعم أنها كانت تُستخدم كمراكز للمقاومة، لكن الوقائع على الأرض تُظهر أن ما يُقصف هو حياة المدنيين ومساكنهم. ومع كل انهيار جديد، يتكشف أن الأمر يتجاوز التدمير المادي إلى مشروع يستهدف الذاكرة الجماعية للمدينة، ويدفعها نحو اقتلاع شامل من الجغرافيا والتاريخ، في سياق إبادة جماعية مستمرة منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023، خلّفت عشرات آلاف القتلى والمصابين ومئات آلاف النازحين.

رمزية الأبراج في الذاكرة الفلسطينية

الأبراج في غزة ليست مجرد أبنية شاهقة، بل تمثل في وعي سكانها مرآة لحياة جماعية متماسكة رغم الحصار والحرمان. فهي أماكن تجمع عشرات العائلات في فضاء واحد، حيث يمتزج الفضاء الخاص بالفضاء العام، ويصير البرج عنواناً لصمود الناس وإصرارهم على الحياة، وكل طابق يحكي قصة أسرة واجهت الحروب، وكل شقة تضم حكاية مقاومة يومية من أجل البقاء.

حين يستهدف الاحتلال هذه الأبراج ويسويها بالأرض، فإن الرسالة التي يسعى لإيصالها واضحة: لا أمان للفلسطيني في بيته مهما ارتفع، ولا مستقبل للمدينة مهما حاولت أن تنهض من تحت الركام.

وبهذا يصبح التدمير عملية منظمة لاقتلاع رمزية الاستقرار في غزة، وإلغاء أي صورة عن حياة طبيعية للفلسطينيين، وتتحول الأبراج التي طالما شكلت نقطة توازن عمراني في المدينة، إلى شاهد على وحشية العدوان، وعلى محاولة محو الهوية العمرانية والاجتماعية لغزة بأكملها.

جمود دولي وعربي

المفارقة أن هذه الجرائم التي تُرتكب على الهواء مباشرة لم تعد تحدث صدمة دولية كما كان متوقعاً. فالعالم الغربي، الذي يرفع شعارات حقوق الإنسان، يواصل تقديم الدعم العسكري والسياسي للاحتلال، متجاهلاً أن تدمير الأبراج السكنية واستهداف المدنيين يدخل ضمن أبشع صور الانتهاكات الإنسانية.

أما الموقف العربي؛ فيبقى أسير بيانات الإدانة الشكلية التي لا تصاحبها خطوات عملية، ما يجعل الفلسطينيين يواجهون مصيرهم وحيدين في ظل حصار سياسي مضاعف.

ويعكس الجمود الدولي في مواجهة هذه الإبادة الجماعية خللاً عميقاً في النظام العالمي القائم، الذي أثبت أن حياة الفلسطينيين ليست أولوية، وأن صور الأبراج المنهارة مهما هزّت الضمير الإنساني لن تغيّر شيئاً في موازين السياسة.

وهكذا؛ تصبح كل بناية تُهدم في غزة مرآة مزدوجة: من جهة تكشف عن وحشية الاحتلال، ومن جهة أخرى تفضح عجز العالم العربي والدولي عن منع جريمة مكتملة الأركان.

كل برج ينهار في غزة لا يعني فقط انهيار مبنى من الإسمنت المسلح، بل سقوط طبقات من الذاكرة والأمل، واغتيال مشترك لحق الفلسطيني في بيت يؤويه ولحق العالم في ادعاء إنسانيته.

إن الأبراج التي تتهاوى تحت القصف تذكّر بأن الحرب لم تعد مجرد مواجهة عسكرية، بل عملية اقتلاع رمزية تستهدف هوية مدينة بكاملها. وما يزيد المشهد مأساوية أن الركام لا يثقل كاهل الفلسطينيين وحدهم، بل يثقل ضمير عالم يتفرج على الإبادة بصمت.

في النهاية؛ ما يسقط في غزة ليس الحجارة فقط، بل يسقط معه ما تبقى من مصداقية النظام الدولي، ليبقى البرج المهدّم شاهداً أبدياً على وحشية الاحتلال وخذلان العالم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى