الهوية الترجمية والهوية الروائية

أد. حسين محمود
هناك استخدام جائر لمصطلح “السردية” في النقد الأدبي العربي، وأتصور أن سك المصطلح من نقاد المغرب العربي جاء ترجمة لمصطلح استخدمه تودوروف واستقر عليه البنيون، وهو narratologie والذي جاء مقابله العربي “علم السرد”، ولا أعرف لماذا. السرد في اللغة وفقا للمعنى المعجمي، وما ورد في القرآن الكريم هو إحكام الشيء وضمه بدقة بعضه إلى بعض، وهو خاص بالصناعة، مثل صناعة الدروع أو صناعات البناء. وجاء بمعنى الممارسة، مثل سرد الصوم وفي ذلك حديث شريف، وفي الحديث أيضا متابعة القول مرتبا منطقيا مثل قول عائشة رضي الله عنها إن “الرسول لا يسرد سردكم هذا” أي لا يتحدث بالطريقة التي تتحدثون بها، وفيه أيضا “تسميع” مثل سرد القرآن أي تسميع حفظه متتاليا كاملا. ومنه القص في المسامرة. أما ما قصده تودوروف فيتعلق بالرواية، ذلك الجنس الأدبي المعروف، والمعنى الأقرب والمباشر لترجمه مصطلحه هو “علم الرواية”، تمييزا له عن “فن الرواية”، وهو علم مرتبط بالشكلانية والبنيوية، وليس له علاقة بمناهج نقدية أخرى مثل التأويلية والتفكيكية وغيرهما.
ومن ثم يصبح الحديث عن ترجمة الرواية، وفي الأعم الترجمة الأدبية، وهو من فروع دراسات الترجمة الكبرى، وفيه أبحاث كثيرة وعميقة. وسأكتفي هنا بتوضيح العلاقة بين الأدب والترجمة، ونبدأ بتساؤل طرحه الفيلسوف والناقد بول ريكور عن أهمية الأدب: ”ما الذي كنا سنعرفه عن الحب والكراهية، وعن المشاعر الأخلاقية، وبشكل عام، عن كل ما نسميه الأنا، لو لم يتم التعبير عن كل ذلك بالكلمات والتعبير عنه من خلال الأدب؟ “بهذا الاستفهام الخطابي الاستفهامي يدعو ريكور الفيلسوف والمحلل النفسي (وكل قارئ بالطبع) إلى ملاحظة الإمكانات التي لا تنضب التي تقدمها الرواية لاستكشاف العالم. والواقع أن المحلل النفسي ليس جديدًا على مثل هذه الدعوة، فقد سبق لفرويد أن اعترف بأن المحلل النفسي يستقي من نفس المصادر التي يستقي منها الأديب، ويعمل على نفس الموضوع، وإن كان ذلك بطرق مختلفة: فالفنان في الواقع ”يختبر في نفسه ما يتعلمه من الآخرين، أي القوانين التي يجب أن يخضع لها نشاط هذا اللاوعي“ وفقا لتأكيد ريكور.
ويمضي ريكور، وهو من أشهر النقاد في التأويلية متحدثا عن الهوية الروائية ويربطها بالهوية الترجمية، ويؤكد أن الروائي يقع في مكان وسط بين الذاكرة والإبداع، ويترتب على ذلك التفكير فيه كتعبير متقن بشكل أو بآخر من الناحية الجمالية عن حاجة أولية، منقوشة بشكل وثيق في الطبيعة البشرية، وفهمه على أنه إحدى الوظائف الأساسية للذات، وباعتباره في حد ذاته مكونًا للذات. من وجهة نظر سيكولوجية، يتشكل الحكي إذن كحاجة/رغبة نابعة من الحاجة إلى خلق مساحة بين اندفاع المشاعر والذات التي يجب أن تختبرها، ولكن أيضًا أن تفكر فيها وترتبها حتى لا تموت. وبالتالي فإن الحكي الروائي (المتصل عضويا بفن الرواية) ينطوي على ثلاث لحظات متمايزة ومترابطة 1) إعادة الارتباط بمجموعة من الذكريات الواعية المصحوبة بأحاسيس لا شكلية تتعلق بالمجال الحسي الإدراكي واللاوعي غير القابل للتمثيل؛ 2) الابتعاد، وإن كان جزئيًا، عن العصارة العاطفية المتوهجة والمتصلة بهذا النشاط الذي يربطها بالأساطير القديمة؛ 3) ثم إعادة التعيين في ضوء الحاضر، من خلال عملية تحيل جزئيًا إلى التأخير الزمني الفرويدي وتتولد في ضوء العلاقات الشخصية الحالية للراوي.
والسؤال الذي يطرح نفسه، إذن، هو ما إذا كانت الرواية، بالإضافة إلى كونها قد سبقت التحليل النفسي، لم تقم أيضًا بمهمة تحويله بشكل عميق، بمجرد أن أصبحت بمثابة هذا النموذج، الذي احتل منذ الثمانينيات فصاعدًا مكانة بارزة في هذا المجال، بطريقة ”تقوض“ أولوية التفسير.
ألا يوجد بعض التشابه مع ما يقترحه ريكور نفسه ضمنيًا، أي أن الحكي، في مختلف الأشكال الفنية للحكاية، يمكن أن يتحدى الأسبقية المعرفية التي تنتمي تقليديًا في الفلسفة إلى المنطق والميتافيزيقا وعلم المعرفة؟
فالفرضية القائلة بأن ”رواية الحكاية“ تمثل حاجة أساسية للكائن البشري تعني أن الهوية الشخصية ذاتها يمكن أن تُبنى من خلال الحكي. فمن خلال الحكي يمكن أن تتم التحولات المتعددة الأشكال للذات. وبتطبيق هذا الخطاب على الهوية الروائية، يؤكد ريكور على أن الشخصية وتمثيلها لها تاريخ يمكن القول إنه ” ترسب“. ومع ذلك، فإن ”ما تختزله الترسبات، يمكن للرواية أن تكشفه“.