هيكل أمام المدعي الاشتراكي!

فى نوفمبر 1977 كان هيكل فى لندن بعد فرنسا ومقابلته الرئيس ميتران، حين أبلغه رئيس تحرير «الصنداى تايمز» بأن لديه معلومات بأن هناك أمرًا يدبر له فى القاهرة ونصحه بعدم العودة، لكن هيكل رفض وقال إنه لا يحب أن يكون لاجئا سياسيا. وعاد ليواجه حملة فى الصحف وإتهامات بالخيانة والكذب والتضليل وشارك فى الحملة بعض تلاميذه وحصلوا مقابل ذلك على ترقيات وعلاوات ومكافأت. وعندما ذهب الرئيس السادات إلى القدس فى مايو 1978 كتب هيكل مقالا معارضا فى صحف عربية بعد أن منع من الكتابة فى صحف مصرية. بعدها صار الجو السياسى ملبدا. جمد حزب الوفد نفسه وأعلن أن السبب هو التضييق عليه ومطاردة أنصاره، واحتفى حزب مصر الذى كان يرأسه السادات وذهب كل قياداته وأعضائه إلى حزب جديد برئاسة السادات، وأجرى استفتاء شعبيا لتعديل الدستور وإضافة مادة بإنشاء جهاز المدعى الاشتراكى لمحاكمة من يخالف قانون «العيب» الذى عرف بأنه «قانون هيكل» لأن الجرائم المنصوص عليها فيه تنطبق عليه تماما. وصدر قرار بمنع هيكل من السفر.
فى هذا الوقت اتصل بى هيكل وسألنى: كيف يقدم إقرار الذمة المالية؟ لأنى كنت مختصا فى الأهرام بمتابعة أخبار وزارة العدل ومجلس الدولة وجهاز الكسب غير المشروع وصلتى وثيقة بهذه الجهات. وذهبت إليه بالإقرار وسجل فيه كل ما يملكه هو وزوجته وأولاده القصر وسجل مصادر الزيادة فى دخله. علمت بعد ذلك أن لجنة من المستشارين فى جهاز الكسب غير المشروع فحصت الإقرار والمستندات المرفقة به ولم تجد شبهة كسب غير مشروع. وبعد ذلك أرسل وزير الداخلية اللواء نبوى إسماعيل قائمة بأسماء خمسة صحفيين مصريين تضمن اتهامهم بإرسال أخبار ومقالات تنشر فى الخارج تشهر بمصر وتهدد سلامة الجبهة الداخلية هم: محمد حسنين هيكل، ومحمد سيد أحمد، وأحمد حمروش، وصلاح عيسى، وأحمد فؤاد نجم ومع البلاغ صور المقالات موضع البلاغ، وبناء على ذلك أصدر المدعى الاشتراكى قرارا بمنع الصحفيين الخمسة من السفر.
فى يوم 28 مايو 1978 كان العنوان الرئيسى فى الصفحة الأولى للأهرام «إحالة صحفيين بينهم هيكل إلى المدعى الاشتراكى»، وتحته عنوان فرعى: الداخلية تعلن: الصحفيون شهروا بمصر وهددوا سلامها الداخلى. وفى اليوم التالى أذاعت وكالة رويترز خبرا يقول: (هيكل يقول: لم أسئ إلى مصر ومن حقى أن أختلف مع الرئيس السادات، وأظن أن ذلك من حق كل مواطن). وبدأ المدعى الإشتراكى المستشار أنور حبيب بنفسه التحقيق مع هيكل ومعه اثنين من مساعديه هما المستشار عبد الرحيم نافع، والمستشار أحمد سمير سامى الذى أصبح بعد ذلك وزيرا للعدل واستغرقت الجلسة الأولى ساعتين ونصف صرح هيكل بعدها للصحفيين (لقد كان جو التحقيق مهذبا وقد طلب منى المدعى الاشتراكى ألا أتحدث عن ما جرى فى التحقيق).
كان موضوع التحقيق هو الموضوع الرئيسى فى عدد من صحف الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وخصصت أشهر الصحف العالمية افتتاحياتها لموضوع التحقيق وهذه الصحف هى: واشنطن بوست الأمريكية، والموند الفرنسية، والتيمز البريطانية، والكورييرا ديلا سيرا الإيطالية، وقالت وكالة أسوشيتد برس: هيكل يواجه فصله من نقابة الصحفيين ومنعه من الكتابة داخل أو خارج مصر وربما يواجه عقوبة السجن خمس سنوات أو سبع سنوات كما فى قانون العيب. أما المقالات التى أحيل بسببها للتحقيق فكانت رأيا مخالفا لمبادرة الرئيس السادات بالذهاب إلى القدس، ونشرت هذه المقالات فى ماية 1978 فى كتاب بعنوان (حديث المبادرة). وفى سنة 1981 – بعد أربع سنوات – نشر هيكل نص التحقيق وقال إن كثيرين فى العالم العربى وخارجه عرضوا عليه توفير ملجأ له ورفض.. وقال إن الحملة عليه وصلت إلى حد القول بأنه ملحد، وقال إن الرئيس السادات طلب منه أن يكتب مقالات عن النميرى فقال له: أخشى أن تفهم أن عبد الناصر كان يحدد لى ما أكتب فيه وهذا غير صحيح ولم يكتب.
وفى حديث مع صلاح عيسى فى جريدة الأهالى يوم 27 إبريل 1983 قالى هيكل إن الرئيس السادات تصور حين نقلنى من الأهرام أنه حكم علىّ بألا أصبح صحفيا ولهذا كان يغضب لأنى مازلت صحفيا، وقد نشرت وقلت فى حياة السادات ما قلته بعده، وحين كنت فى الأهرام نشرت مقالات عن المحاذير التى تحيط بتجارة السلاح، وكتبت مقالات عبرت فيها عن الخلاف السياسى مع السادات.
قبل إحالة هيكل للتحقيق قال لى الأستاذ زكريا نبيل إن الرئيس السادات قرر اعتقال هيكل وهو يتوقع أن توجه إليه أسئلة من الصحفيين الأجانب وطلب منى أن أكتب الأسئلة التى أتوقعها والإجابات عليها فقلت له إن السؤال الوحيد الذى سيوجه للرئيس هو أن اعتقال هيكل ليس بسبب جريمة ولكن بسبب آرائه، فهل الرأى جريمة؟ وليس لدىّ إجابة على هذا السؤال ولكن الرئيس قطعا لديه إجابة مقنعة!.
استغرق التحقيق عشر جلسات متوسط كل جلسة ثلاث ساعات، وفى نهاية الجلسة العاشرة سأله المدعى الإشتراكى: هل لديك أقوال أخرى. فأجابه: نعم، وسجل فى محضر التحقيق تعليقه على قرار الإتهام، وفى اليوم التالى ظهرت الصحف وفى صفحاتها الأولى أن التحقيق تأجل لأجل غير مسمى.
ومن جانبى علمت أنه كان هناك اقتراح يفرض الحراسة على أموال هيكل بقرار من المدعى الاشتراكى وإحالته إلى محكمة القيم ولكن كانت الخشية أن تكون هذه فرصة هيكل ليقول فى الجلسات العلنية للمحاكمة ما دار فى التحقيق وتنقل الصحف أقواله فى الخارج.
وتم سحب جواز السفر من هيكل، ومرت الشهور، وذهب المهندس سيد مرعى إلى هيكل وقال له إن العلاقات بينه وبين السادات ستعود إلى مجاريها والمشكلة أن هيكل يضع رأسه برأس الرئيس وأجابه هيكل: إنه يعرف أن هناك حدودا ويحرص على ألا يتعداها ولكن ليس معنى ذلك الخضوع، وأنا صحفى، فكيف يستطيع صحفى أن يفرض رأيه على رئيس الدولة، وقال إن آراءه فى نقد السادات شهادة للنظام بأن مناخ الحرية حقيقى فى مصر.
وحين نشرت صحيفة اتهامات لهيكل بعنوان (واحد ضد مصر) كتب هيكل مقالا نشر فى الخارج بعنوان (بل أنا واحد من مصر)، وبعد فترة عادت المياه إلى مجاريها، وعادت العلاقات بين هيكل والسادات، وعاد هيكل ليكتب من جديد مقالات وكتب وازداد بريقه.. والقصة فيها فصول أخرى