لعبة المرايا في رواية متاهة الأوهام

للمغربي محمد سعيد احجيوج

كتب محمد نصر
-في عصر تزدحم فيه المكتبات العربية بروايات تتبع أنماطًا مألوفة وتسعى وراء الجوائز والمبيعات، يقدم الروائي المغربي محمد سعيد احجيوج عملًا يتحدى كل التوقعات. رواية “متاهة الأوهام” للكاتب المغربي محمد سعيد احجيوج (دار نوفل / 2023) ليست مجرد رواية تُقرأ، بل تجربة معرفية تستدعي القارئ ليصبح شريكًا في عملية الخلق السردي.
-تنقسم الرواية إلى ثلاثة كتب متداخلة، يظهر فيها الكاتب بوصفه شخصية روائية تعيش في عوالم متوازية. في الكتاب الأول، نتابع ثلاث تجليات مختلفة لـ”محمد”، الكاتب العاطل الذي يرعى طفلته بينما تعمل زوجته، والذي يتلقى مكالمات هاتفية غامضة من امرأة تعرف أسراره، ومكالمة أخرى تقوده إلى لقاء مع العميد “ش.” من مديرية مراقبة التراب الوطني، الذي يعرض عليه صفقة: التخلي عن مشروعه الروائي حول اختفاء المهدي بن بركة مقابل كتابة رواية تمجد عمليات المخابرات
-ما يميز هذا العمل هو رفضه الجذري للحدود الفاصلة بين الواقع والخيال. إذ يصبح الكاتب شخصية في روايته، وتصبح الرواية واقعًا يعيشه، في حلقة مفرغة من الإبداع والوجود المتبادل. الكتاب الثاني يقدم مواجهة مع ناشر يرفض النشر ويطالب بكتابة تقليدية، بينما الكتاب الثالث يضعنا أمام بطل يستيقظ في غرفة بيضاء مطالب بالعثور على كاتب مفقود يحمل اسم احجيوج نفسه.
-التقنية السردية المعقدة التي يوظفها احجيوج تجعل من القراءة عملية تأويل مستمرة. فالضمائر تتبدل والشخصيات تتداخل، وكل مستوى سردي يخلق المستوى الآخر في دوامة لا متناهية. هذا ما يسميه النقاد “الميتا سرد”؛ سرد عن السرد نفسه، حيث تصبح عملية الكتابة موضوع الكتابة.
-لكن وراء هذا التعقيد الظاهر تكمن رسالة عميقة حول حرية الإبداع في مواجهة السلطة. سواء كانت سلطة سياسية تمثلها أجهزة المخابرات، أو سلطة ثقافية تجارية يجسدها الناشر، أو حتى سلطة الواقع نفسه. الرواية تطرح سؤالًا جوهريًا: إلى أي مدى يمكن للكاتب أن يحافظ على استقلاليته الإبداعية في عالم يحاول باستمرار توجيه قلمه؟
-إذ أن ما يطرحه أحجيوج، أو يجربه في بناء الرواية العربية، هو أن يدخل إليها عناصر ليست من طبيعة السرد، أو أي من أساليب القص المألوفة، في ما يسمى بميتا الرواية، أي تلك العناصر التي تقترب أن تكون قواعد للرواية الحديثة، على حد تعبير الناقد اللبناني أنطوان بو زيد.
-بطبيعة الحال، مثل هذا العمل التجريبي لن يناسب كل قارئ. فهو يتطلب صبرًا وتركيزًا ورغبة حقيقية في خوض مغامرة فكرية. كما أن الإلمام بأعمال احجيوج السابقة، خاصة “ليل طنجة” و”أحجية إدمون عمران المالح”، يثري التجربة ويضيف طبقات إضافية من المعنى.
-تؤكد “متاهة الأوهام” أن الرواية العربية قادرة على مجاراة أعقد التجارب الروائية العالمية، وأن لدينا أصواتًا إبداعية تجرؤ على كسر القوالب والبحث عن أشكال جديدة للتعبير. إنها رواية تستحق القراءة، ليس فقط لجمالياتها السردية، بل لأنها تفتح نقاشًا ضروريًا حول دور الأدب ووظيفة الكاتب في عالمنا المعاصر.
-في النهاية، حين نصل إلى الكلمات الأخيرة “رُفعت الأقلام وجفّت الصحف”، ندرك أننا لم نقرأ مجرد رواية، بل خضنا تجربة تأملية في طبيعة الكتابة والوجود. وربما هذا هو أعظم إنجازات احجيوج: أن يجعلنا نعيد التفكير في علاقتنا بالنص والواقع والخيال.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى