حين تتجلى الذاكرة فى كتاب «ذكريات أيام حلوة وسنوات ضائعة»

غلاف الكتاب
فى زمنٍ تتسارع فيه الأيام كأنها تهرب من ذاتها، يأتى كتاب رجب البنا «ذكريات أيام حلوة وسنوات ضائعة» كصوت خافت يخرج من عمق الذاكرة، لا لينافس صخب الحاضر، بل ليصافحه بحنوّ، ويقول له: “كنتَ هناك، وما زلتَ بداخلي”.
يمدّ رجب البنا يده إلينا بكتابٍ يمشى على مهل. لا يهرول فى السرد، ولا يتعجل الوصول، كأنّه شيخ جليل يجلس على مصطبة الذكريات، يحكى، ويتنهد، ويترك لكل جملة أن تأخذ نفسها قبل أن تنتقل إلى الأخرى.
“ذكريات أيام حلوة وسنوات ضائعة” ليس مجرد عنوانٍ لمذكرات شخصية، بل هو خلاصة رجل عاش فى قلب الحياة الثقافية والسياسية والفكرية لمصر قرابة قرن. فيه يخلط الكاتب بين الخاص والعام، بين الدفء الإنسانى ومرارة المشهد العام، بين لحظات الدهشة الأولى ونضج الخيبة.
يكتب رجب البنا الكتاب الصادر عن دار ريشة للنشر والتوزيع، وكأنه يهمس… وكأن السطور نفسها مكتوبة بريشة ناعمة تبللت بماء الحنين. لا تشعر أنك تقرأ بقدر ما تشعر أنك تُستضاف: يُفتح لك باب بيت قديم فى شارع جانبى من شوارع القاهرة، تُقدَّم لك القهوة، ثم يبدأ الحكى.
يحمل الكتاب ملامح مصر التى لا تظهر فى كتب التاريخ، بل تسكن فى التفاصيل الصغيرة: فى رائحة طعام، فى ملامح وجه، فى موقف إنسانى عابر، فى مقهى اختفى من الخريطة لكن بقى حيًا فى الذاكرة. ولعل ذلك ما يجعل هذا العمل بعيدًا عن الصيغة التقليدية للمذكرات، أقرب إلى البوح المتأمل، حيث يمتزج الذاتى بالجمعى، والفردى بالوطنى، فى نسيج متماسك لا يُشعرك أبدًا أنك تغرق فى سردية شخص واحد، بل كأنك تفتح صندوقًا يخبئ روح مصر منذ منتصف القرن العشرين.
يمر بنا رجب البنا على وجوهٍ من زمنٍ لم يبق منه إلا الأسماء فى هوامش الكتب. يعيد إليهم الحياة لا بوصفهم عناوين، بل بشرًا لهم نبض وحكايات. نقرأ عن رجاء النقاش، نجيب محفوظ، مصطفى أمين، يوسف إدريس، وكأنهم يمرون أمامنا لا فى صورٍ جامدة، بل فى مشاهد يومية فيها تفاصيل اللقاءات، ومزج العفوية بالعمق.
ليس الكتاب سيرة ذاتية بالمعنى التقليدى، ولا هو مجرد شذرات من زمن مضى. بل هو لوحة فسيفساء مرهفة، تلتقط لحظات صغيرة من الحياة، لتجعل منها مرآة كبرى نرى فيها أنفسنا، آباءنا، وشوارعنا التى تغيّرت مع الأيام، لكن بقيت أرواحها تتجوّل فينا.
رجب البنا، بخفة قلم وعمق رؤية، يكتب كما يتنفس، يكتب كما لو كان يجلس بجوارك فى مقهى قديم، يروى لك من الذاكرة ما يثير الدهشة، ويستدعى الحنين، من دون أن يدّعى بطولة، أو يلوّح بماضٍ مجيد. لا يعظ، ولا يجلد، بل يهمس. وهذا هو سر الكتاب: أن تقرأه فتشعر أنك عثرت على ذاتك بين السطور، دون أن تبحث عنها.
الأسلوب فى هذا الكتاب هو البطل الحقيقى. لا زخرفة لغوية ولا خطابة، بل لغة شفافة، راقية، محمّلة بالعاطفة، تُنصت أكثر مما تقول، وتُشبه تلك الكتب التى لا تُقرأ بعينك فقط، بل تقرأها بقلبك، وربما تبكيك وأنت لا تدرى. الجُمل قصيرة أحيانًا، لكنها تترك أثرًا طويلًا، كما تفعل الذكريات عندما تمرّ بنا فجأة فى زوايا الأماكن، أو فى نبرة صوت تشبه صوتًا أحببناه قديمًا.
يكتب رجب البنا عن البيت، لا بوصفه جدرانًا أو عنوانًا، بل كمأوى للروح، حيث يتجاور الأب الحازم والحنون، والأم التى تُخبّئ الحنان فى تفاصيل المطبخ، حيث رائحة الخبز تعادل حضنًا، وحيث الصمت فى لحظات العشاء هو لغة من لغات الحب. يكتب عن الأزقة التى كانت تشهد اللعب والشجار والمصالحة، عن مدارس لا تُنسى رغم بساطتها، وعن أساتذة نقشوا أسماءهم فى الذاكرة بأخلاقهم لا بأصواتهم.
لا يتحدث الكاتب عن “زمن جميل” بوصفه زمنًا بلا مشاكل، بل يكتب عنه كمن عاش كل ما فيه، بحلوه ومرارته، ثم اختار أن يتذكّر الجمال، لا لأنّه ينكر ما سواه، ولكن لأنه يرى أن النور يستحق أن يُروى أكثر من الظلمة. وهذه نزعة أصيلة فى الكتاب، تجعل قارئه لا يشعر بثقل الحنين، بل بحلاوته، ولا يقع فى فخ النواح على ما فات، بل يشعر بالامتنان لأنه عاش أو سمع عن ذلك الزمان.
ومن بين سطور الذكريات، يلمع الوطن كخيط ذهبى يربط القصص كلها. لا يرفعه الكاتب إلى مقام التقديس الخطابى، بل يراه كما يراه ابن البلد: فى المواقف، فى الكرامة، فى رائحة الشوارع، وفى صور الرفاق الذين تغيّروا أو غابوا، لكن ظلّ حضورهم حيًا فى الوجدان. مصر، كما يكتب عنها رجب البنا، ليست مجازًا ولا شعارًا، بل كائن حى، تعبت وارتاحت، مرضت وصحّت، لكنها بقيت أمًّا لا تنكر أبناءها.
ولأن رجب البنا ابنٌ للإذاعة والصحافة والفكر، فإن لغته تأتى مشبعة بحسّ الكاتب الذى لا يكتفى بالحكى، بل يُصوّر ويؤرّخ، لا بالمعلومات الجافة، بل بالتفاصيل الحيّة. يكتب كما لو كان يرسم بالألوان المائية، لونٌ خافت هنا، وآخر زاهٍ هناك، وبينهما ظلّ وذكاء فى التكوين. أسلوبه سلس، لكنه محمّل بطبقات من المعنى، لا يخلو من عمق فلسفى حين يحدّثنا عن مرور الزمن، ولا يفتقر إلى دفء إنسانى حين يتوقف عند المواقف الصغيرة التى تصنع فى مجموعها حياة كاملة.
فى كل فصل من فصول الكتاب، تبرز قدرة رجب البنا على الإمساك باللحظة الهاربة. لحظة النظر من النافذة صباحًا على ضوء شمس يشبه تلك التى كانت فى الخمسينات، أو لحظة استماع إلى أغنية قديمة تُعيد الروح إلى زمن لم يعُد، لكنه لم يغب. إن “أطياف الأزمنة الجميلة” ليس مجرد استدعاء لذكريات الكاتب، بل استحضار لوجدان جيلٍ كامل، عاش بين الحروب والأحلام، بين المدّ القومى والانفتاح، بين السينما البيضاء وموجات التغيير التى اجتاحت كل شيء.
يمرّ الكاتب على مراحل من حياته لا بوصفها فصولًا زمنية، بل كمساحات من التشكّل الروحى والثقافى. من الطفولة إلى الشباب، من القرى إلى المدينة، من الإذاعة إلى صالات التحرير، نراه ينتقل لا كمراقب، بل كفاعلٍ فى كل المشاهد، يحمل على كتفه حقيبة مليئة بالأسئلة والآمال، ويمضى بها حيث تمضى به الحياة.
ولا يغفل الكتاب عن تقديم بانوراما ثقافية لمصر فى عقودها الماضية. نجد فيه إشارات ذكية لأسماء لامعة فى الفكر والأدب والفن، لا تأتى على سبيل التباهى، بل كأطياف رافقت الزمن الجميل نفسه. يذكر زملاء الحرفة وأساتذة المهنة والمثقفين الذين أثّروا فى الوعى العام، دون أن يغرق فى التأريخ أو التأليه، بل كما يُذكر الأصدقاء القدامى فى حديثٍ صادق عند المساء.
الجميل فى هذا العمل أنه لا يضع القارئ فى موقع المتفرج على حياةٍ لم يعشها، بل يجعله شريكًا فى الشعور، وكأن ما يُروى له، هو جزء من ذاكرته هو أيضًا. هذه قدرة نادرة فى الكتابة، لا تأتى من البلاغة وحدها، بل من الصدق العميق، ومن العين التى ترى الجمال فى البسيط، والحكمة فى العادى، والمجد فى اليومى.
الأسلوب فى «ذكريات أيام حلوة وسنوات ضائعة»، يتجاوز الفصاحة ليصل إلى ما يمكن أن نسميه “لغة القلب”. لغة لا تستعرض نفسها، بل تحملك فى هدوء إلى أعماق التجربة، تُضيء لك الطريق دون أن تُشعرك بأنها تمسك بيدك. يكتب رجب البنا بجمال السهل الممتنع، فلا تُثقل لغته على العقل، ولا تنفصل عن الروح، بل تمضى كالنهر: رقراقًا، عذبًا، وفى بعض المنعطفات، شديد العمق.
ومع كل ما فى الكتاب من دفء وعذوبة، فإنه لا يغيب عن وعيه السياق التاريخى والسياسى، لكنه لا يكتب من موقع الغاضب أو المُحبط، بل من موقع الحكيم الذى يرى الزمان ككل، ويعرف أن ما سقط اليوم قد يُزهر غدًا، وأن ما رحل قد يعود على هيئة جديدة. فحتى الخسارات، فى عيون رجب البنا، ليست نهايات، بل إشارات مرور فى طريق الحياة.
إن «ذكريات أيام حلوة وسنوات ضائعة»، ليس كتابًا عن الماضى بقدر ما هو دعوة لقراءة الحاضر بعين مختلفة. عينٌ لا تفتقد، بل تتأمل، لا تندب، بل تَفهم. وبين السطور، تتبدى دعوة خفية إلى المصالحة: مع الذات، مع الزمان، ومع تلك الأمكنة التى ما زالت تسكننا وإن تغيّرت ملامحها.
بهذا العمل، يُقدّم رجب البنا شهادة حية على جيلٍ لم يُكتب عنه بما يكفى، جيلٍ حمل الحلم بيد، والواقع باليد الأخرى، وسار فى طريقه بشرف ومحبة. كتابه هذا يُشبه الرسائل القديمة، تلك التى كُتبت بخط اليد، واحتفظ بها الأبناء لأنها تحمل رائحةً لا تُنسى.
وبين ما يُقال وما يُلمح إليه، نجد أنفسنا أمام نصّ محمّل بالشجن، نعم، لكنّه شجنٌ جميل، شجنٌ نابع من حبّ عميق للحياة. وهذا هو سرّ «ذكريات أيام حلوة وسنوات ضائعة»: أنه يذكّرنا بأن الجمال لم يكن فى الأشياء فقط، بل فى العيون التى نظرت، والقلوب التى عاشت، والأرواح التى ما زالت تعرف كيف تتذكّر بمحبة.