رحلة مصطفى محمود من الشك إلى العلم والإيمان

-كان على الدكتور مصطفى محمود أن يقطع رحلة طويلة استغرقت ما يقرب من عشرين عاما بدأها بالشك والاستغراق فى الفلسفة الوجودية وأدب العبث واللامعقول، إلى أن توصل إلى مرحلة الإيمان.. قادته الفلسفة إلى الأسئلة الوجودية عن لغز الحياة ولغز الموت، ولكن دراسته للطب أكسبته عقلية علمية أدرك بها أن الكون كله مبنى وفق هندسة وقوانين دقيقة لا يمكن أن تكون قد نشأت عشوائيا، فكل شىء موجود فى الكون بسبب وله وظيفة، من الذرة متناهية الصغر إلى الأفلاك العظيمة كالشمس وكواكبها إلى المجرة الهائلة التى فيها أرضنا، وفى هذه المجرة أكثر من ألف مليون شمس، ولابد أن يكون الخالق لكل هذا موجود وقدرته لا حدود لها، ومن الطبيعى أن يكون هو الذى بدأ الخلق، والمعجزة فى كل شىء.. فى جسم الإنسان نجد كل البشر من خامة واحدة هى الخلية فيها الجينات الوراثية، وكل إنسان فيه ترتيب خاص به لا يشاركه فيه أحد، يجعله منفردا ولا يتطابق مع الناس فى تكوينه الجسمانى والعقلى والنفسى وله بصمة يده الخاصة به وحده لا تتكرر على مر العصور منذ بدء الخليقة وإلى أن تقوم الساعة. وفى هذا معجزة لا يمكن أن تنشأ عشوائيا، كما أن النوم ثم اليقظة هما النموذج المصغر للموت ثم البعث، وكل إنسان يستطيع أن يلمس الوجود الروحى بداخله ويدرك أنه وجود مختلف عن وجوده المادى.
-ويقول إنه خطر له أن يكتب كل ما يحفظه من أرقام.. رقم جواز السفر.. ورقم السيارة.. ورقم البيت والشقة والتليفون.. ورقم الهوية وأرقام تليفونات من يعرفهم، وتواريخ ميلاده وميلاد أولاده، وثوابت الرياضة والطبيعة مثل النسبة التقريبية وسرعة الضوء، وسرعة الصوت، ومجموع زوايا المثلث، ودرجة غليان الماء، وما تعلمه فى كلية الطب عن نسبة السكر فى الدم، وعدد كريات الدم الحمراء وعدد كريات الدم البيضاء، وعدد نبضات القلب.. وغير ذلك كثير.. فوجد أمامه عددا كبيرا من الأوراق فيها مئات الأرقام، ورأى أن فى داخله حاسبا إلكترونيا لأنه يتذكر معظم هذه الأرقام، وسأل نفسه: أين كانت تختفى كل هذه الأرقام مع مئات الأسماء والكلمات والاصطلاحات وبأكثر من لغة، وكيف يتذكر الأشكال والوجوه والأماكن والروائح وكيف يتذكر الأصوات والأغانى والموسيقى، وكيف يتذكر الأحداث المؤلمة والأحداث السارة.. أين يوجد هذا الأرشيف العجيب.. ولم يجد الإجابة فى الذاكرة لأن أحدا لم يعرف ما هى الذاكرة وكيف تعمل وكيف تنسى.. وقاده ذلك إلى أن هذا سر من أسرار الخالق فهو سبحانه «يعلم السر وأخفى».. وهذا ما جعله يؤمن بأن التفسير المادى وحده لا يقود إلى الحقيقة الكامنة فى كل الموجودات، وهى إرادة الله وقدرته.
-ويقول إنه أدرك العدل الإلهى وحكمة الله فى أن خلق فى كل كائن القدرة على إدراك الحق من الباطل، والصواب من الخطأ، والفضيلة من الرذيلة، وهذه هى الفطرة التى فطر الله الناس عليها، والدليل على ذلك أن الإنسان حين يظلم أو يخطئ أو يأتى بالرذيلة فإنه يشعر فى داخله بوخز الضمير وبعد فترة تطول أو تقصر يشعر بالندم، لأن الميزان فى داخله يفرق بين الحق والباطل وبين الصواب والخطأ، لكنه يتجاهله أحيانا أو يضلله الشيطان ولهذا يقول الله تعالى: «وهديناه النجدين»، أى أن الإنسان أعطاه الله القدرة على أن يميز بين الخير والشر وهذه هى «الحاسة الأخلاقية» التى نجد أثرها حتى فى الحيوان، ويكفى أن تنظر إلى قطة حين تخطف قطعة سمك أو لحم كيف تخطفها وتجرى هاربة، أو تنظر إلى عصفور حين يهبط خلسه لينقر الحب ويسارع بالطيران، ويكفى أن نتذكر قصة الغراب الذى قتل أخاه ثم سارع بدفنه ليوارى سوءة أخيه كما جاء فى القرآن وتعلم منه ابن آدم حين قتل أخاه.. وهذه هى الحاسة الأخلاقية، وهى الضمير الذى خلقه الله فى الإنسان وفى غيره من الكائنات.. «صنع الله الذى أتقن كل شىء» (النمل – 88).
-من هنا بدأت رحلته مع العلم والإيمان بعد أن تيقن من أن العلم يقود إلى الإيمان بالخارق وأن الإيمان يدفع إلى البحث والعلم لمعرفة أسرار الكون وتحسين الحياة والاستعداد ليوم البعث والحساب.
-شخصية مصطفى محمود وفكره وتحولاته فيها الكثير مما يضىء العقول ويهدى إلى اليقين. وتحتاج إلى استكمال البحث فى مسيرته الفكرية التى ترفعه إلى مقام المفكرين الكبار الذين أنجبتهم مصر وتفتخر بهم.