تميز الأسبوع الأخير على الجبهة اللبنانية بتصعيد همجي في العدوان على لبنان، وارتفعت وتيرة وحدّة القصف الجوي على مناطق واسعة فيه، وتوسّعت واشتدت العملية البريّة الإسرائيلية على حافة الحدود إضافة إلى مواصلة الاستهداف المدفعي لبلدات الجنوب اللبناني. وكعادته في الجريمة، ارتكب الجيش الإسرائيلي فظائع وموبقات أدّت إلى استشهاد الآلاف وجرح عشرات الآلاف، وإلى تدمير قرى بأسرها وهدم عشرات آلاف المنازل والمرافق العامة. كما «نجح» الاحتلال الإسرائيلي في تهجير أكثر من مليون لبناني عن أماكن سكناهم في الجنوب اللبناني ومناطق أخرى.
وبموازاة تكثيف الحرب على لبنان، كثر الكلام عن «قرب انتهاء الحرب»، وعن جهود دبلوماسية وسياسية متسارعة للتوصل إلى تسوية، تضمن وقف القتال وعودة «النازحين على طرفي الحدود» ـ كما يقول مسؤولون أمريكيون. وأعلنت القيادة الإسرائيلية، على لسان أكثر من مسؤول، أن المفاوضات لن توقف القتال، وأن لا حياد عن مبدأ «تفاوض تحت النار». ونجد أن كل كلمة تقال عن تسوية، تتبعها قنبلة تسبب الموت والدمار. إن حقيقة معادلة «الحرب والكلام» الإسرائيلية هي مفاوضات بالنيران الحية والعدوان المتواصل في محاولة لفرض تسوية بالقوة العسكرية وليس استنادا إلى الشرعية الدولية أو حتى الحلول الوسط.
لقد أثارت الجلسة الاستشارية الطارئة بشأن «الجبهة الشمالية»، التي دعا إليها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، مساء الثلاثاء الماضي عاصفة من التعليقات والتكهنات، عن قرب انتهاء الحرب وتزايد إمكانيات التوصل إلى اتفاق تقبل به إسرائيل ويوافق عليه حزب الله. في المقابل حرص «مصدر سياسي إسرائيلي مرموق» على تبريد التوقّعات قائلا: «لن نتنازل عن شروطنا التي طرحناها للوسطاء، ولا نرى تغييرا في موقف حزب الله». وصرح وزير المعارف الليكودي، يوآف كيش بأن هناك ضغوطا دولية قوية على الحكومة، وأضاف: «لكن ما يهمنا هو أمن إسرائيل، ولن نوقف الحرب قبل أن نحقق أهدافها التي حددناها». ويبدو أن الاجتماعات التشاورية والرسمية المكثفة في الأسبوع الأخير، جاءت لامتصاص هذه الضغوط ولمنع توسيع دائرة حظر الأسلحة، عبر نشر إشاعة قرب «انتهاء الحرب والتوصل إلى تسوية». ويمكن القول إنه في عرف القيادة الإسرائيلية لا علاقة بين الحديث عن وقف الحرب ووقفها فعلا، وهناك فك ارتباط بين الأقوال والأفعال.
الشروط الإسرائيلية
لو راجعنا «الشروط الإسرائيلية» للتسوية مع لبنان، لوجدنا أنها بدأت «متواضعة» لا تتجاوز توفير ما يلزم لإعادة النازحين الإسرائيليين إلى بيوتهم في المستوطنات الحدودية، وكان من الممكن التوصل إليها دبلوماسيا. ومع مرور الوقت، ارتفع منسوب هذه الشروط، خاصة بعد عمليتي الهواتف النقالّة وسلسلة الاغتيالات، وبلغت ذروتها بعد اغتيال السيد حسن نصر الله، وتعالت أصوات رسمية وغير رسمية تطالب بتطبيق قرار مجلس الأمن 1595 وتجريد حزب الله من السلاح، وحتى التدخل في التوازنات السياسية اللبنانية وانتخاب الرئيس. وتمادت إسرائيل في مطالبها، ظنا بأن حزب الله غير قادر على استعادة عافيته والنهوض من جديد. لكن، وبعد أن خاب ظنّها، وتبين لها أن الحزب نظم صفوفه من جديد، وأبدى قدرات قتالية عالية، بدأت تتراجع. ومع ذلك ما زالت الشروط الإسرائيلية لوقف الحرب بعيدة جدا عما يمكن أن يقبل بها حزب الله، أو أي طرف وطني لبناني. وطالما أن المبدأ الإسرائيلي هو «مواصلة الحرب» إلى حين الوصول إلى تسوية تلبي المطالب الإسرائيلية، فإن المحصلة هي حرب طويلة، وربما طويلة جدا، على الرغم من كل ما يشاع عن تقدم وعن مفاوضات جدية. ولتوضيح ذلك نورد هنا الشروط والمواقف الإسرائيلية المركزية، التي تسميها إسرائيل اتفاق 1701 «محسّن»، والأصح تسميتها، الشروط التعجيزية:
أولا: خلق ظروف تسمح بعودة المستوطنين النازحين إلى بيوتهم بأمن وبأمان. هذه العودة مرتبطة بشعورهم بالاطمئنان إلى سلامتهم وبزوال التهديدات التي أرعبتهم، والتي تزايد الخوف منها بعد نشر الجيش عن استعدادات حزب الله لاقتحام الجليل. مشكلة إسرائيل أن قسما كبيرا من هؤلاء قد استقر في مواقع أخرى ولا يريد الرجوع إلى المناطق الحدودية، ودلت آخر الاستطلاعات أن 70% منهم قرروا عدم العودة، مهما كانت نتائج الحرب. ولإقناع النازحين الإسرائيليين بالعودة تسعى إسرائيل لإنشاء حزام أمني لطمأنتهم.
ثانيا: إسرائيل تريد أن تكون المنطقة الواقعة جنوبي نهر الليطاني خالية من قوات ومنشآت حزب الله. وهي تربط إبعاد مقاتلي حزب الله عن الاستهداف المباشر للمستوطنات الإسرائيلية الحدودية بالصواريخ المضادة للدبابات، التي يصعب التصدي لها، والتي تصل هدفها قبل إطلاق صافرات الإنذار، وهي أكثر ما يخيف مستوطني البلدات الحدودية الإسرائيلية، ويصل بها الأمر إلى المطالبة ألا يوجد ناشطو حزب الله من سكان الجنوب في الجنوب.
ثالثا: تطالب إسرائيل بنشر أعداد أكبر من القوات الدولية ومن جنود الجيش اللبناني في منطقة الجنوب. وهي تصر على توسيع صلاحيات قوات اليونيفيل وعلى تغيير تركيبتها من دول إضافية غير مشاركة فيها حاليا. وتشترط إسرائيل كذلك، أن يتمم الجيش اللبناني ما بدأت فيه قواتها من تدمير لقدرات حزب الله في الجنوب وإبعاد قواته إلى شمال نهر الليطاني.
رابعا: تصر القيادة الإسرائيلية على ضمان «حرية عمل الجيش الإسرائيلي لفرض الاتفاق في حال تقصير قوات اليونيفيل والجيش اللبناني». ويقول استراتيجيون إسرائيليون أن الجنوب اللبناني يجب أن يكون مثل منطقة «أ» في الضفة الغربية، يدخلها الجيش متى يشاء من دون خشية من الرد. ويصرح القادة الإسرائيليون إلى أنهم يسعون إلى «نظام رقابة تطبيق فعّال وناجع».
خامسا: طرحت إسرائيل شرطا جديدا وهو حظر بري وبحري وجوي لإدخال أسلحة وذخائر وعتاد لحزب الله. واعتبرت أن من حقّها التدخل عسكريا لمنع تزود الحزب بالسلاح من أي نوع وعبر أي طريق.
سادسا: تشترط إسرائيل فك الارتباط بين غزة ولبنان، بحيث تجري المفاوضات حول تسوية مع لبنان بلا علاقة بحرب الإبادة في غزة.
سابعا: «حرية» طيران سلاح الجو الإسرائيلي فوق الأراضي اللبنانية بلا أي قيود. وإسرائيل لا تعتبر ذلك شرطا، بل أمرا مفروغا منه ولا تجد حاجة لإدراجه ولا حتى ذكره.
ثامنا: بالنسبة لإسرائيل لن تتوقف الحرب حتى التوصل إلى اتفاق نهائي، أي أنها لن توقف الحرب لأجل التفاوض.
تاسعا: تسعى إسرائيل إلى إنشاء «شريط الموت» على حافة الحدود، ليكون منطقة لا يسمح لأحد بالدخول إليها، ومن يقترب منها يخاطر بحياته. وهذا على غرار الشريط الذي بدأت إسرائيل في فرضه على طول حدود غزة.
عاشرا: ترسيم الحدود وبحث المطالب اللبنانية بشأن 13 نقطة حدودية، لا يكون جزءا من التسوية، ويجري بحث الموضوع بوساطة أمريكية بعد إتمام وتطبيق التسوية.
موقف حزب الله
أوضح حزب الله موقفه عبر خطاب أمينه العام الجديد الشيخ نعيم القاسم، وعبر عدة متحدثين في وسائل الإعلام اللبنانية. وجاء في موقف الحزب أنه يصر على إسناد غزة ويرفض فك الارتباط معها. كما يعارض الحزب بشدة إدخال تعديلات على القرار 1701. وإذ هو لا يعترض على تقوية قوات يونيفيل، إلا أنه يصر على عدم تغيير صلاحياتها وعلى إبقاء الدول المشاركة فيها كما هي، دون ضم دول جديدة إليها. ويرفض الحزب بشدة الشروط الإسرائيلية التي تتجاوز القرار 1701، ويشترط البدء في التفاوض غير المباشر بوقف العدوان. يبدو أن الأخبار المتداولة حول التقدم في الاتصالات حول تسوية، التي تعززت بقدوم المبعوث الأمريكي عاموس هوكشتاين، هي أمريكية المصدر ومردها رغبة الإدارة الديمقراطية إشاعة أجواء من «التفاؤل بالحل» عشية الانتخابات. ولعل الناتج الأهم لكل هذا الضجيج هو أن الأطراف المختلفة تبلور مواقفها، ليتضح بناء عليها ما هو ممكن وما هو غير ممكن. وإذا كان هناك تباين في مواقف المستوين السياسي والعسكري في إسرائيل بشأن الحرب في غزة ولبنان، فإن الطرف الحاسم هو بنيامين نتنياهو وحكومته، وعليه فإن الحرب ستطول، وما يجري من حراك لوقفها لا يرقى لما هو مطلوب لتحقيق ذلك.