الرئيس الإسرائيلي: أكبر الأخطار التي تهدد إسرائيل هو خطر الصراع الداخلي

في خضم احتفاء الإسرائيليين بعيد الغفران، دعا الرئيس إسحاق هرتسوغ المجتمع الإسرائيلي إلى تعلم الدروس من الماضي، معتبراً أن “التهديد الإسرائيلي الداخلي هو الأكثر حدة وخطورة على الإطلاق”، وفق ما جاء في كلمة ألقاها الثلاثاء، 26 سبتمبر/أيلول، خلال مراسم التأبين الرسمية لإحياء الذكرى الخمسين لحرب يوم الغفران، التي وقعت في 6 أكتوبر/ تشرين الثاني من عام 1973.
كلمات هرتسوغ جاءت تعليقاً على اشتباكات إسرائيلية داخلية وقعت في الأقصى، بين يساريين علمانيين وآخرين متشددين أصوليين، على خلفية فصل النساء عن الرجال في الحيز العام خلال صلاة عشية عيد الغفران، أقدس أيام السنة في اليهودية.
تصدعات داخلية تغذيها الخلافات الدينية-العلمانية
المخاوف، التي عبر عنها هرتسوغ، مصدرها مرور إسرائيل بأعمق أزمة داخلية وأشد استقطاب اجتماعي وسياسي وديني، وسط احتدام الخلاف الأزلي بين اليهود العلمانيين والمتدينين، ما “يشكل خطراً حقيقياً على المجتمع وأمن دولة إسرائيل”، وفق تحذير الرئيس الاسرائيلي.
ويُعد الانقسام على الذات أمراً متجذراً، ويعود إلى مرحلة ما قبل تأسيس دولة إسرائيل التي، رغم قيامها على فكرة الوعد الرباني في الأرض المقدسة، كادت ألّا ترى النور بسبب “الحريديم” ومن ورائهم منظمة “أغودات إسرائيل” اليهودية المتشددة التي حاولت الوقوف عائقاً أمام التصويت على قيام إسرائيل أمام الأمم المتحدة، مشترطةً وجود ضمانات بشأن مكانة الشريعة اليهودية وموقعها في الدولة الجديدة. وحينها قام دافيد بن غوريون، في التاسع من يونيو/حزيران من عام 1947، بوضع تصور يرضي الأطراف الداخلية والخارجية، حول مسألة علاقة الدين بالدولة، وأرسله إلى المنظمة المتشددة في القدس، من أجل تبديد مخاوفها، لا سيما فيما يخص الثوابت كقدسية يوم السبت والطعام المطابق لأحكام الشريعة اليهودية والزواج المدني وحرية إدارة التعليم الديني، فيما ظل الخلاف حول نقطة حل جميع القضايا وفقاً لروح التوراة، دفيناً تحت الرماد، قبل أن يظهر مجدداً في منتصف الثمانينيات، مع تصاعد الأحزاب الدينية المتشددة، ونشأة أحزاب جديدة مثل حزب “شاس حريدي” المحافظ.
وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي، كانت إسرائيل على مواعد جديد مع الخلافات الدينية-العلمانية، بسبب وصول اليهود الجدد القادمين من الدول المتفككة، ليصبح هذا الملف على رأس أولويات السياسيين من قطبي الصراع، المتأرجحين بين المضي قدماً نحو المزيد من التداخلات بين الدين والدولة، أو مواصلة التفاوض والتفاهم من أجل الحفاظ على الشكل الذي رسمه بن غوريون، والمواءمة بين المتطلبات الداخلية والصورة المقبولة خارجياً.
الثقل الشعبي واللعب على وتر التحالفات
على مدى سنوات، ظل الخلاف متركزاً حول تجنيد اليهود الحريديم وطلاب المعاهد الدينية المتفرغين لدراسة التوراة، ووصل غضب الأصوليين في مارس/آذار من عام 2014، إلى حد نزول مئات الآلاف من الرجال المتدينين، إلى شوارع القدس، رافعين شعاراتٍ ضد الحكومة ومحاولاتها تجنيد المتدينين وحرمانهم الحق الذي أعطتهم إياه دولة إسرائيل منذ قيامها.
ولطالما نجح الأصوليون في الضغط على الحكومات المتعاقبة من أجل تحقيق مطالبهم، معتمدين في ذلك على تعدادهم الذي يشكل نسبة متزايدة من الشعب الإسرائيلي، تتجاوز الـ 16% من مجمل اليهود، ما يمكّنهم من تشكيل الرقم الصعب في التحالفات السياسية. ومع تزايد هذه النسبة تتزايد المخاوف من تعميق الانقسامات الداخلية، ويذهب البعض من أمثال الكاتب والمؤرخ الإسرائيلي “شلومو ساند”، إلى حد التحذير من إمكانية انهيار الدولة والمجتمع، وهو الذي وصف المجتمع الإسرائيلي بالأكثر عنصريةً في العالم الغربي، وفق ما جاء في كتابه “كيف لم أعد يهودياً؟ الصادر عام 2014، والذي عبّر فيه عن خشيته من أن تخسر إسرائيل جاذبيتها كـ “أرض الميعاد” وتصبح منطقة طاردة للمعتدلين والعلمانيين.
نجح الأصوليون في الضغط على الحكومات المتعاقبة من أجل تحقيق مطالبهم، معتمدين في ذلك على تعدادهم الذي يشكل نسبة متزايدة من الشعب الإسرائيلي، تتجاوز الـ 16% من مجمل اليهود، ما يمكّنهم من تشكيل الرقم الصعب في التحالفات السياسية.
ويعتبر شلومو ساند أن “الواقع الثقافي الإسرائيلي والهوية اليهودية الكبرى أحدثا فصاماً في سياسة الهويات الإسرائيلية: فمن جهة تلتزم إسرائيل، كدولة يهودية، بتقديم الدعم المتزايد لمؤسسات ومنشآت دينية، على حساب تعليم الإنسانيات والمعارف العلمية. ومن جهة أخرى، لا تزال شريحة من الطبقة الوسطى العلمانية تشكو القيود الدينية”.
الصلاة والنساء
حتى اللحظة، لا تلوح في الأفق نهاية واضحة للصراع بين المكوّنين الديني والعلماني داخل إسرائيل. فأحدث فصول الخلاف كُتِبَ مع وصول حكومة بنيامين نتنياهو الثانية، التي تسببت، قبل سبعة أشهر، في ارتفاع حدة الخلاف بين العلمانيين والمتدينين، بعد أن طرح وزير الأديان، مخائيل ملكي إيلي، ونواب من حزب “شاس احريدي”، مشروع قانون ينص على عدة إجراءات محافظة ومتشددة؛ منها حظر التدخين في منطقة الصلاة عند حائط المبكى، ومنع النساء من النفخ في البوق وإلزامهن بارتداء ملابس محتشمة ومنع الصلاة المختلطة، وغيرها من المحظورات التي تصل عقوبة مخالفتها إلى السجن ستة أشهر وغرامة مالية تبلغ عشرة آلاف شيكل، وهو تطور وصفته منظمة “نساء الحائط” باليوم الأسود في إسرائيل، بينما حذر باحثون من خطر محدق بالمجتمع الإسرائيلي وأمن دولة إسرائيل في ظل تجاوز تدخلات الأصوليين حدود تشريع قوانين الزواج والتجنيد والمواصلات العامة وتحريك التحالفات السياسية، فيما يطمح العلمانيون، بعد 75 عاماً على تأسيس دولة إسرائيل، إلى الفصل بين الدين والمؤسسات الحكومية والتمتع بحياة متحررة وعصرية تشبه تلك التي يعيشها الغرب، لكنهم بحسب شلومو ساند، “يحلمون بالتحليق خارج السرب الديني شرط عدم الانفصال الكلي عنه، وذلك من أجل الإبقاء على الهوية اليهودية خارج إطار الديانة اليهودية، وهو ما يُعد أمراً مستحيلاً”، بحسب المؤرخ المنتمي إلى صفوف اليسار اليهودي المنقسم بدوره.
مشروع قانون ينص على عدة إجراءات محافظة ومتشددة؛ منها حظر التدخين في منطقة الصلاة عند حائط المبكى، ومنع النساء من النفخ في البوق وإلزامهن بارتداء ملابس محتشمة ومنع الصلاة المختلطة، وغيرها من المحظورات التي تصل عقوبة مخالفتها إلى السجن ستة أشهر وغرامة مالية تبلغ عشرة آلاف شيكل
التعديلات القضائية والتصدعات الداخلية
أثارت التعديلات القضائية التي قادها وزير العدل ياريف ليفين ورئيس لجنة القانون والدستور سيمحا روتمان مزيداً من الخلافات داخل إسرائيل، ليس فقط بين الحكومة والمعارضة، بل حتى داخل حزب الليكود نفسه، وتحول الخلاف إلى حرب تصريحات بين مختلف الأطراف، وسط موجة احتجاجات شعبية مستمرة نجحت في خلق انقساماتٍ داخل الائتلاف الحاكم، بعد أن استجاب رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو للضغوط الداخلية والخارجية وقرر إقامة لجنة تعيين القضاة بموجب تركيبتها الأصلية، لتشمل ممثلاً عن المعارضة كالمعتاد، امتصاصاً لغضب المعارضة التي حذرت من “قيام حرب في حال عدم التزام الائتلاف بالاتفاقيات أو الإقدام على خطوة أحادية الجانب، سنخرج من غرفة المفاوضات”، الأمر الذي استدعى تدخّل الرئيس يتسحاك هرتسوغ، مطالباً بالامتناع عن الإدلاء بتصريحات سياسية لا تخدم التوافق، في وقتٍ “تمر فيه إسرائيل بمرحلة مصيرية”، وسط تحذيرات الأجهزة الأمنية المتكررة من عمق الشرخ بين الإسرائيليين وتبعات ما يحدث على المؤسسة الأمنية والعسكرية.
مظاهرات حاشدة واعتصامات في تل أبيب والقدس قبل التصويت على التعديلات القضائية
بالتوازي، تجلى الشقاق في خروج مئات الآلاف من المؤيدين لخطط الحكومة في مواجهة مظاهرات المعارضة، بعد استعادة بنيامين نتنياهو لجزء من شعبيته، بحسب استطلاعات الرأي، على خلفية الهجوم على غزة وربط الإصلاحات القضائية بمكافحة الإرهاب، ما دفع أعضاء الحكومة وعلى رأسهم وزير المالية بتسلئيل سيموتريتش ووزير القضاء ياريف ليفين بالتباهي بامتلاكهم قاعدة جماهيرية عريضة، ودعم هائل للمعسكر القومي، ما يأخذ الصراع بعيداً عن مجرد الاختلاف على مبدأ “الديمقراطية”، ليشمل الاختلافات الداخلية الإسرائيلية المتعلقة بصراع الليبرالية والتديّن.
الخلافات الجوهرية، التي بلورتها حالة الغضب حيال التعديلات القضائية، ألقت بظلالها حتى على العلاقات بين الحكومة وجهاز الاستخبارات، بحسب ما كشفته وكالة “رويترز البريطانية في أغسطس/ آب 2023، عندما نقلت الانتقادات التي وجهها “تامير باردو”، رئيس جهاز الموساد الإسرائيلي الأسبق، إلى الحكومة محذّراً من إمكانية انتهاء الحلم الصهيوني ومتّهماً نتنياهو بالتسبب في تفكيك الجيش الإسرائيلي والموساد، وجعل المخاوف تسيطر على المعنويات داخل أحد أقوى أجهزة الاستخبارات في المنطقة، ما دفع ببعض كبار الضباط إلى التفكير في التقاعد المبكر.
الانتقادات التي وجهها “تامير باردو”، رئيس جهاز الموساد الإسرائيلي الأسبق، إلى الحكومة محذّراً من إمكانية انتهاء الحلم الصهيوني ومتّهماً نتنياهو بالتسبب في تفكيك الجيش الإسرائيلي والموساد
التضخم يعمق الشرخ
مع التبعات الاقتصادية المترتبة على الأزمات والحروب العالمية والظروف الإقليمية والداخلية، نمت في إسرائيل جبهة خلافات جديدة، على خلفية مساعي حكومة نتنياهو إنشاء ما سمّته “صندوق الأرنونا”، الذي يقتطع جزءاً من مداخيل السلطات المحلية من الضرائب على المصالح التجارية، كي تستفيد منها سلطات أخرى وجهات من بينها المستوطنات وبلدات الحريديم، وهو ما تعارضه الكثير من البلديات والمجالس المحلية التي تفضّل استخدام مداخيلها الضريبية في خدمة سكانها، وتستهجن استثناء مستوطنات الضفة الغربية من المساهمة في الصندوق، ما يعني أنها ستسفيد على حساب المناطق التجارية المزدهرة، وهو الأمر الذي دفع بعشرات البلديات، بينها تل أبيب، هرتسليا، هود هشارون، حيفا، بيت شان، معالي غلبوع وإيلات، إلى الدخول في إضراب، خلال مايو/آيار 2023، شمل إغلاق المدارس وتعليق جمع النفايات وخدمات أخرى، كما شهد الكنيست حينها عراكاً واشتباكاً بالأيدي بين نواب، تم طرد بعضهم، خلال جلسة مناقشة خطة “صندوق الأرنونا” المثيرة للجدل.