إرفعوا رايات النَّصر!

بقلم: أدهم شرقاوي
تبدو الحرب في غزة قد وصلت إلى نهايتها، وتثير السؤال المعتاد: من الفائز في هذا الصراع؟
يرى البعض أن غزة قد حققت النصر قبل بداية الحرب، مع قدرة المقاومة على التصدي للاحتلال.
ومع كل نهاية حرب يكون السؤال البديهيّ: من الذي انتصر؟!
شخصيًّا أُؤمن يقيناً أن غزّة قد انتصرت في هذه الحرب قبل أن تبدأ!
من اللحظة التي أذلَّت فيها قوات النخبة في كتائب القسام جيشَ الاحتلال يوم العبور المجيد كان النصر قد تحقَّق!
الحرب على مدار أشهرٍ حقيقتها أن الاحتلال كان يرمّم خيبته، والمقاومة كانت تدافع عن نصرها؛ وفي حين أضاف الاحتلال خيبةً جديدة وهو يرمّم خيبته الأولى، كانت المقاومة تسجّل نصراً إضافياً!
لا يمكن الحديث عن النصر في الحرب دون الالتفات إلى موازين القوى بين الطرفين المتحاربين، فأحدهما جيش نظامي جرّار هو الأقوى في المنطقة، ومقدّرات الغرب كلها تحت إمرته، وسلاحها رهن إشارته؛ والطرف الآخر مقاومة محاصرة من إخوتها قبل أعدائها، غالب سلاحها صنعته بيديها، وقليله استوردته بشقّ الأنفس! وعليه، فإن النصر بالنسبة للمقاومة هو بقاؤها واقفة على قدميها رغم جراحها، وهذا هو الذي حدث، فالذي أنهى الحرب هو قذائف الياسين 105، وعبوات شواظ، وقناصة الغول، وقفزة عاهد أبو ستة الشهيرة وهو يصرخ بفرح “ولّعتْ”، ونداء مهند جبريل “حلّل يا دويري”، وسجدة تيسير أبو طعيمة، والمئات من مجاهيل الأرض مشاهير السماء.
الحرب لم تُنهِها أروقة السياسة، ولا مبادرات الساسة!
في الحروب لا صوت أعلى من صوت الميدان، وهذا الميدان كسبته المقاومة بمئات المثلثات الحمراء!
أما المحتل، فنصره الوحيد كان أن يكسر المقاومة كسراً لا تقوم بعده، وهذا – بفضل الله – ما لم يتحقق.
وكذلك فإن النصر في الحرب يستدعي أن نفهم طبيعة الصراع وكنه الحرب؛ فما لا تفهمه بدقة لن تُحلله تحليلاً صحيحاً، وما لم تُحِط بِسُنَنه التاريخية لن يكون لديكَ بشأنه نماذج تقيس عليها ولا شبيهات تحاكيها.
هذه حرب بين محتلٍ سلاحه ترسانته، وبين صاحبِ أرضٍ سلاحه عقيدته وإيمانه وحقُّه؛ ولطالما كان صاحب الأرض هو الذي يقدّم القربان الأكبر من الدم، لهذا فإن النصر في هذه الحرب لا يُقاس بعدد شهدائنا مقابل عدد جِيَفهم!
الجزائريون لم يقتلوا من قوات الاحتلال الفرنسي أكثر من خمسين ألفاً، ولكنهم انتصروا رغم أنهم قدّموا من الشهداء مليوناً ونصف؛ والأمريكان قتلوا من الافغان أضعافاً مضاعفةً مما قتلت طلبان منهم، ورغم هذا خرجت أمريكا من افغانستان وهي تجرُّ أذيال الخيبة والخزي والهزيمة!.
وكذلك فإن النصر في الحرب إنما يُقاس بمدى ما يحقق كلّ طرفٍ فيها من الأهداف التي أعلنها، لا بمقدار ما يقتل ويدمّر.
أنتَ حين تخسر مباراةً على أرضية الملعب لن تصبح فائزاً إذا ما جرَّفتَ أرضية الملعب الذي أُقيمت عليه المباراة، ستبقى خاسراً لأنه لا أحد يحتسب تكسير كراسي الملعب من ضمن الأهداف!
المقاومة تفهم قدراتها جيداً، وتعي حدود الصراع وأبعاده، وتدرك المحيط الإقليمي والدولي الذي تعيش فيه، وتعرف أنها لم تصل إلى جولة حرب التحرير الكامل، وهي لهذا لم تعلن أنها تريد القضاء على دولة الاحتلال في هذه الجولة، ما أرادته من هجومها المبارك حصلتْ على بعضه، وبعضه يُستجدى منها لأجل أن تقبل بوقف الحرب!
الخلاصة غزة انتصرت رغم التضحيات والجراح وحماس والمقاومة باقية ومستمرة.
أمّا المحتل، فقد أعلن للحرب أهدافاً لم يحقّق منها شيئاً!
أعلن الاحتلال أنه سيغيّر شكل الحكم في غزّة، وأن حماس لن يكون لها وجود؛ ثم ها هي باقية، وهو يفاوضها، ويعترف بشرعيتها، وهو اعتراف الذليل المهزوم!
وإلا فإن المقاومة أخذت شرعيّتها من أهلها وبيئتها الحاضنة، التي ما زالت تضعها على رأسها رغم العقاب الجماعي الذي طالها!
أعلنَ الاحتلال أنه سيحرِّر أسراه بالقوة، ولم يستطع أن يحرِّر أسيراً واحداً، وصدقت المقاومة وعدها، إما أحياء عن طريقنا وإما في التوابيت عن طريقهم!
أعلن الاحتلال أنه سيفكك بنية القسّام العسكرية، وها هي كتائب العزّ تصول وتجول، يدها طائلة وقذائفها حارقة!
أعلن الاحتلال أنه سيقتل قيادات المقاومة، ثم ها هم ما زالوا يديرون الحرب باقتدار عسكرهم وساستهم!
ثم لو منّ الله على بعضهم بالشّهادة فهذا ليس نصراً للمحتل، هذه المقاومة ولّادة؛ استشهد أحمد ياسين فصار قذيفة، استشهد يحيى عيّاش فصار الصاروخ A250، الأطول مدىً وقدرة على التدمير بين صواريخ المقاومة.
حتى عز الدين القسام، الذي استشهد قبل ميلاد دولة الكيان، حملت الكتائب اسمه.
على هذه الأرض لا دم يضيعُ سدى!
أعلن الاحتلال أنه سيشوّه صورة المقاومة في العالم، فتمّ جرجرته إلى محكمة العدل الدولية وإدانته، أما المقاومة فكبيرة بعيون أعدائها قبل عيون أحبابها!
الحرب قاب قوسين أو أدنى من نهايتها، خرجنا منها مثخنين ولكن أعزاء، مكلومين ولكن رؤوسنا مرفوعة!
بيوتنا في الأرض، ولكن كرامتنا تبلغ عنان السماء، شهداؤنا كُثر، ولكن عزيمتنا صلبة، مساجدنا سُوّيت بالأرض ولكن إيماننا شامخ!
البيوت المهدمة سنبنيها، وسنصهر حديدها ونجعله أجساماً لصواريخ الجولة القادمة، المساجد سنعيد مآذنها شامخة،
المستشفيات سنعيد لها دورها، والجامعات سنقيم صفوفها ومختبراتها!
شباب قوات النخبة الذين استشهدوا سندرّب غيرهم، والأطفال سننجب غيرهم، والعائلات التي مُحيت من السجلات المدنية سنسجّل غيرها العشرات!
وليس بيننا وبين هذا المحتل إلا لغة الرّصاص، اللغة الوحيدة التي يفهمها ويحترمها!
ولن نتوقف حتى يُصلّي من يبقى منا في المسجد الأقصى!